مطار كولومبو : المسافة بين الوطن والغربة

صالة المغادرون

عرفت ماينتظرني في صالة المغادرين بمطار كولومبو بمجرد أن توقفت دقائق عند الباب الخارجي لأسمح للسيدة الأربعينية التي تقف أمامي أن تنهي توديع ابنتها وحفيدها وتدفع أمامها العربة المحملة بحقيبتين من المقاس الكبير. يقول ختم الخطوط المنسي على ظهر إحدى الحقائب بأنها جاءت من الكويت وغالباً ستعود له على الأقل هذا ماتؤكده المشية الرصينة لصاحبتها وطريقتها في اللبس والجديلة الممتدة على طول ظهرها. دمعة أخذت مجراها على خد الفتاة دون أن تعبىء بيد الأم التي تحاول إيقافها وأسى في عين الأم لم تزده نظرات الطفل إلا أسى..

حقائب تتأهب للغربة

أقف في طابور تغليف الحقائب لكن دوري لا يأتي؛ كلما رأيت عينين محمرتين وشاشة جوال مفتوحة على غرفة وعائلة تراجعت للخلف ليتقدم صاحبها لعل هذا يطيب خاطره ويهون غربته. أعرف من شكل الحقائب وعددها عمل صاحبها وعدد المرات التي ودع فيها عائلته ومضى لبيت وعائلة أخرى. ثلاثينية ترتدي جينز وقميص سماوي تضع على ماكينة التغليف حقيبة ثم الثانية ثم الثالثة، أعتقد أنها عملت ست سنوات وهذه اجازتها الثالثة وتعود للخليج للمره الرابعة فما زال منزلها بحاجة لسنوات اضافية من العمل حتى يكتمل ثم هناك قطعة الأرض الصغيرة بجواره التي ستزرعها لتبيع محصولها إما في كشك على جانب طريق سياحي أو في محل بقالة بجانب بيتها وهذا ماسيحدده المبلغ المدخر. ابتسم للعشريني خلفنا وأشير له أن باستطاعته تجاوزي فرغم الصلابة التي يبديها إلا أني أعلم من تقافز الأطفال على شاشة الجوال والوجع في عيني زوجته أن الفراق مرّ والغربة مع الفراق مرارة مضاعفة وأعرف أيضاً أن الحاجة أكثر منهما مرارة. يضع حقيبة على الجهاز ثم الثانية فأعرف أن هذه عودته الثانية لنفس الكفيل وأن الحقيبة الخضراء القماشية محملة بالشاهي السيلاني فغرفته الصغيرة في الفناء الخارجي لبيت كفيله تتحول في ليالي نهاية الاسبوع إلى (نوراليا)* صغيرة تفوح برائحة سيلان.  العجوز التي غطى رأسها الشيب ذات البنجابي الأزرق لم تنتظر في الحقيقة أذني لتتخطاني فبثقة المربيات أزاحتني من طريقها برفق لتضع كرتونين ثم حقيبة كبيرة، زبديات مصنوعة من جوز الهند مع علبة زيت جوز هند وكاكاو خام وفانيلا طبيعية كلها أعتقد انها مكونات مسافرة لابنتها بالتربية والتي تدخل الآن مرحلتها الجامعية وتبدأ مشروع لصنع الكيك بتشجيع ومساعدة هذه السيدة. يناديني العامل للتقدم وأنا شاردة لم أنتبه أن الجميع قد قضى حاجته وشد وثاق حقائبه / مشاعره.

بطاقة صعود الطائرة

طابور طويل بجانبه طابور أطول يستعد لقطع بطاقة صعود الطائرات المتجهة لدول الخليج. فتاة في بداية العشرينات بحقيبة واحدة صغيرة جداً أعتقد أنها تحمل مشط وبعض الملابس الداخليه وصور. قبل أن تنتهي عيني لنهاية جديلتها أسفل ركبتها سمعت صوت شهيقها ، بكاء غير منقطع ورغم كل هذا الوجع بدا أنها تستميت حتى لايصدر منها صوت لذا سرحت مع الجديلة ولم انتبه للدموع إلا حين فرطت منها الشهقة! ارتبكت أو بالأصح ارتبكنا أنا والرجل الخمسيني الطويل الواقف أمامها بقامه مشدودة يتابع حديثاً صوتي على الوتساب؛ لهجة قصيمية على الطرف الآخر تحاول تأكيد تفاصيل وقت الوصول. قطع التسجيل ما إن سمع الشهقة والتفت ليحدث صاحبتها ، حديث طويل سريع يبدو أنه يطمنها ويحدثها حديث وردي عما ينتظرها أو ربما يخبرها بما ستحصل عليه بعد سنتين من العمل. كبحت الدمعة التي علقت غصة في حلقي ومددت لها منديل وحبة معمول تمر كنت أحمل الكثير منه في حقيبتي، وددت أن أقول أننا طيبون ونرحب بك وأن كل شيء سيكون بخير. اشارة الموظف للرجل ولصاحبة الجديلة الطويلة ثم لي نبهتني أن كل شيء في النهاية سيمضي ولا شيء سيقف من أجل خاطر شعور عابر لشخص عابر.

بوابة 34

الشابة الباكية عند طابور بطاقة الصعود تجلس على كرسي تحتضن كيس قماش صغير تخرج منه رغيف روتي وقصدير فيه سمبل (طبق سيلاني مكون من جوز الهند والفلفل المطحونة) تغمس الرغيف في السمبل وتحاول التصبر بما بقي في حوزتها من ريح سيلان. بعيداً عني وعنها ينام زوجان بجانب بعضهما، رأس الزوجة على كتف الزوج ورأس الزوج على رأسها مشهد حميمي جداً لو هيىء لي لاحقاً أن أرسم أكثر المشاهد الحميمية لاشترك به في مسابقة لرسمت المساحة الرحبة لكتفه ودفء رأسها ثم جميعنا حولهم في المطار أقزام صغار. أعتقد أن سلام كهذا يجعلها المره الثانية لهما كسائق وعاملة في منزل محايد لا يلتفت لمغترب ولا يشيح عنه. على طاولات ماكدونالدز بالقرب من البوابة اصطفت مجموعات أخرى وطبقة مختلفة أزواج مع أطفالهم، كمبيوترات محمولة ، أحاديث وضحكات ولا وجود لشاشة جوال مفتوحة على بيت وعائلة ودموع. أتأمل هذه الحياة وأتأملنا بشراً لا يفصلنا عن بعض شيءٌ مرئي لكن يفصلنا الكثير مما لا يرى!

E18مقعد  

كنت في المقعد الوسط بين سيدتين إحداهما خمسينية والثانية في العشرينات. أما الخمسينية فقد بدت هادئة جداً رزينة حتى أني  لم أعرف حزينة كانت أم سعيدة لذا خمنت أنها تعود لبيت رمادي، لا ضحك ولا بكاء لا صراخ ولا ملاطفة. العشرينية كانت تبدو بحماسة المرة الأولى لشخص يحب المغامرة ويتطلع للتجربة. على شاشة الجوال شاب عشريني متمدد على فراش ويضحك و بمجرد أن جاء الأمر بإغلاق الهواتف المحمولة حتى بدت في حيرة من امرها فعرفت أن الجهاز جديد ابتاعته لأغراض الغربة. ما إن وضعت الهاتف في حقيبتها حتى بدت كمن أدرك هول الصدمة فبدأت بالبكاء، أخرجت حبة معمول ووضعتها في يدها وابتسمت أردت أن أقول لها هي الأخرى ماحاولت قوله للفتاة في طابور بطاقة الصعود. اقترحت عليها مستعينة بالإشارات أن تتفرج على فلم هندي علّ في الدراما الهندية عزاء لدراما شخصية.

صالة القادمون  

هبطت الطائرة في مطار الرياض، بدأت الأحزمة تنفك تأهب الجميع للنزول  حبة المعمول في يد صاحبتها، السيدة الرزينة لا ضاحكة ولا باكية ، شاهدتها عند الخروج من باب المطار تجر حقيبتها باتجاه سيارة تويوتا عائلية وبانتظارها سائق فلبيني منهمك في النظر للشاشة بين يده والتي أحسبها مفتوحة على عائلة في مانيلا،  رجل ينتظر عند بوابة الخروج يمد لي هاتفه بصورة  لسيلانية في العشرينات تبدو مرحة ويسألني أن كنت رأيتها في الداخل..

*نوراليا: مدينة في وسط سريلانكا شهيرة بحقول الشاهي

لا توجد آراء بشأن "مطار كولومبو : المسافة بين الوطن والغربة"

أضف تعليق