مراكش: ثلاثة أيام في المدينة الحمراء

منذ سنوات وزيارة المغرب في قائمتي ، كل مره يتم تأجيلها لوقت مناسب لا بالحار ولا بالبارد ، لإجازة مناسبة ليست بنهاية أسبوع قصير ولا إجازة صيف طويلة حتى جاءت الفرصة المناسبة في إحدى اجازات نوفمبر، كان الجو في المغرب تقريباً معتدل نهارا بارد نوعا ما ليلاً.

ميزة المغرب أنها تشبع حواسك بخليط ثقافي مُحلى بروح الناس الطيبة . ستشعر في المغرب أن مغارة علي بابا فتحت لك وستجد نفسك محاط بالعديد من الكنوز. لن تستطيع في زيارة واحدة أن تحمل الكنوز كلها على ظهرك وهذا ما قد يجعل البعض يصرف النظر عن المغرب على طريقة ” الوقت قصير وابي أشوف مكناس وطنجة ومراكش وفاس وأغادير ووو” أقول لابن بطوطة الذي يرغب في أن يجهز على المغرب كلها في زيارة واحدة مثل حالي سابقاً : على مهلك وجرب ثلاثة أيام في مراكش إن لم تسمح لك الظروف بمدة أطول تتجول فيها حول المغرب كاملة.

مراكش أو المدينة الحمراء، الاسم الذي ستناديها به ما إن ترى بيوتها ومبانيها حتى قبل أن تعرف أنه بالفعل أحد أسمائها. الإقامة كانت في رياض سوفيان، رياض حديثة في قلب مراكش مملوكة لايطالي متزوج من مغربية ومقيم معها في مراكش. عدد غرف الرياض ثمان غرف في الأدوار العلوية تلتف حول فناء الرياض وحول بركة الماء في وسطه. سيستقبلك خالد بمرش ماء الورد يصبه على يدك قبل أن يقدم لك شاي الآتاي المغربي بطريقته الفريدة في الصب والتي تميزه عن بقية أنواع الشاي حول العالم. أما في طبق السراميك الملون والموضوع على طاولة الاستقبال أمامك فقد اصطفت مجموعة من الحلويات المغربية التقليدية التي سيشير خالد لكل واحدة منها بينما يعرفك عليها: غريبة، هبيلة، فقاس، السبلي.

الفطور في المغرب عموما هو فطور الرياض أو الدار التي تسكنها، الفطور المقدم في محل اقامتك هو جزء من التجربة المغربية فلا يعقل أن تتخطاها لتتناول الفطور بالخارج. تأكد أن يكون الفطور مشمولاً في حجزك واستمتع بسفرة من الأطباق ذات النقوش الملونة يتوسطها طاجن الشكشوكة مع الخبز المغربي بجانب ابريق الآتاي وكاساته الملونة. سفرة ملكية بامتياز لا يجب أن تتخطاها لتفطر بعيداً عنها.

بما أن الدار في وسط المدينة القديمة فإنها ستكفيك هم وسائل المواصلات في كثير من الأحيان. الطريق من الدار للعديد من المعالم يمرّ بالسوق ، شرابيل نسائية  وبلغات رجالية (أحذية مغربية )، قفاطين مغربية، زيت الآرجان و أواني من السيراميك الملون. التسكع في السوق ذهاباً لوجهتك وإياباً منها هي نزهة بصرية وفتنة  ردد فيها ” اللهم احفظ مالي من هوى نفسي ومن فتنة السوق”. انصحك بتأجيل التسوق ليومك الأخير في مراكش والاكتفاء في اليوم الأول بشراء قفطان مغربي كضرورة من ضرورات التجول سائحاً في المغرب.

مدرسة بن يوسف  تحفة معمارية بديعة و أحد معالم المغرب التي لابد من الوقوف بها في وسط المدينة سواء كنت محب للعمارة أو الفن أو مجرد سائح يدلل عينيه بالجمال. المواد التي استخدمت في بناء المدرسة جلبت من عدة مناطق، فالرخام من ايطاليا وخشب الأرز من جبال أطلس وتزين سورة الاخلاص بخط الثلث المغربي جدران المدرسة. ترف البناء هذا يجعلها حتما محطة توقف وتصوير.  

لو جاردان سيكريت الحديقة السرية او الحديقة الاستوائية معلم تاريخي يرجع للسعديين من أكثر من أربعمائة عام. تم تجديدها في القرن التاسع عشر وفتحت مؤخرا للسياح. تحفة معمارية أخرى في مراكش ورمز للعمارة الاسلامية. تستطيع التوقف بها للاستراحة في سطحها وتأمل الخضرة الممتدة في الأسفل وأشجار البرتقال بينما تستمتع بالآتاي المغربي مع تارت اللوز اللذيذ الذي ما إن تنهيه حتى تتساءل : أيعقل أن ماتذوقته مجرد تارت لوز أم أن هناك أسرار وسحر خاص صنعت منه تلك القطعة. صوت المياه والعصافير وحفيف الشجر سيجعلها جلسة استرخاء وليست مجرد استراحة بين طريقين.

بعد أن استرخيت وأرحت أقدامك قد تكون العودة للمشي قرابة نصف ساعة ومصافحة الشارع والناس خيار مثالي للوصول لحي ايف سان لوران، أحد الأحياء الراقية بمراكش والذي يحمل اسم مصمم الأزياء الفرنسي تخليدا له ولعشقه للمغرب ومراكش تحديداً. يقول لوران أنه مدين للمغرب بدهشة اللون الذي ساعده على الخروج عن حياد الأسود والأبيض وعندما قارن بين باريس ومراكش انحاز للأخيرة ولدفء اللون الذي وجده فيها ولم يجده في باريس. يضم الحي مجموعة محلات لمصممين محليين وعلامات تجارية محلية تبيع الملابس والحقائب والأحذية والأواني المنزلية. قبل التسوق أنصحك بالتوقف لتناول وجبة الغداء في مطعم بوهيمي مطعم بتصميم بوهيمي لطيف ودافىء وأرضية خضراء تجعلك تفكر في استنساخها في مطبخ منزلك. إن كنت نباتي فخيارات الطواجن ستتكفل بمعدتك أما إن كنت من عشاق اللحوم فالطنجية المراكشية بانتظارك والبسطيلة المدللة كذلك. سيكرمك صاحب المطعم ما إن يعرف أنك عربي بآتاي وحلوى مغربية لتختم بها غدائك.

أما وقد أشبعت جوعك ودللت معدتك بالأطايب المراكشية فماعليك إلا المشي خطوات إلى حديقة ماجوريل أو سأسميها الحديقة الزرقاء، نسبة للفيلا شديدة الزرقة الموجودة في وسط الحديقة والتي تحولت لمتحف للتاريخ الأمازيغي المغربي ودار لعرض أزياء ايف سان لوران. ابتكر الزرقة في مدينة حمراء الفنان الفرنسي جاك ماجوريل الذي عشق المغرب واستقر بها وأقام في بستان فيها بنى فيه منزله الأزرق واستديو الرسم الخاص به. بعد قصة ذات تفاصيل طويلة انتهت الحديقة لمصمم الأزياء ايف سان لوران وصديقه بيير اللذان تكفلا بالترميم والمحافظة على النباتات المنوعة التي حرص عليها ماجوريل. الآن كسائح في مراكش يمكنك زيارة الحديقة والتجول بين النباتات والوقف على النصب التذكاري لايف سان لوران ودخول المتاحف بداخل الفيلا قبل أن تقف ببابها لالتقاط صور للذاكرة وللعمر. * لو قربت أذنك مني ساهمس لك بأن ترتدي الأصفر في هذا اليوم وستشكر توصيتي حين ترى الصور لاحقاً.

  بعد خروجك من الحديقة سيقابلك كونسبت ستور يضم علامات تجارية محلية ومصنوعات مغربية 33 RUE MAJORELLE .. عموماَ زنقة سان لوران بها العديد من المحلات التي ستشدك ببضاعتها المميزة والتي تستحق أن تسافر بها عائداً لبيتك..

ساحة جامع الفنا الساحة الشهيرة في صور السياح في مراكش والمشهورة بعروض القردة وترويض الثعابين وحلقات الغناء والرقص التي تبدأ مساءً هذا بالإضافة لأكشاك الطعام التي سيطاردك صوت الباعة فيها كلٌ يحاول الاستئثار بمعدتك. اتبع هواك وحدسك واجلس بأي طاولة فلا أعتقد الفرق كبير، الحريرة إن كنت في مزاج لطبق غني دافء والأسماك المشوية إن كان مزاجك بحري في ذلك اليوم أما للتحلية فأعتقد أن أكشاك الفواكه والعصير تفي بالغرض. زر الساحة وأنت جائع فالأكل فيها تجربة ثقافية بحد ذاته لا سيما وإن حالفك الحظ بشخص مثل محمد يغني لك أغنية مراكشية لن تفهم منها شيء لكنك ستطرب لها قبل أن تمسك بيده وتستحلفه ان لا يذهب قبل أن يترجم لك الاغنية. لا تفوت فرصة السمر في الساحة حول حلقات الأغاني والرقص والحكايا ، الساحة مسرح كبير لفن الشارع ستستمتع به دون تذكرة فقط بعض الإكرامية إن كنت محب للتصوير. يقول المؤرخ السعدي أن اسم الساحة نسبة للجامع الذي أنشأه السلطان مولاي أحمد وكان اسمه جامع الهناء لكنه انشغل عنه وعن اكماله بالحروب والمحن التي توالت على البلاد فسمي الفناء.

قصر الباهية في المدينة العتيقة وله من اسمه نصيب، قصر باهي وتحفة معمارية أخرى من تحف مراكش. بناه الوزير أحمد بن موسى (باحماد) ليخلد به اسم زوجته الباهية التي جاءت من أسرة علم ومجد. القصر يضم أجنحة لزوجات الوزير كالزوجة النبيلة ورياض للباهية (هي الزوجة الوحيدة التي لها رياض وليس جناح) وكما علقت عدد من المتابعات على هذه المعلومة التي عرضتها على انستقرام:”وش يفيد الرياض فيه وهو متزوج علي!” . القصر عبارة عن أروقة بأسقف من الخشب وأفاريز منقوشة مصنوعة من مواد طبيعية هذا بجانب الفسيفساء التي ستمتلىء ذاكرة جوالك بألوانها.  

ضريح السعديين ضريح أو أضرحة السعديين تعود للقرن السادس عشر بناها عبدالله الغالب ووسعها السلطان أحمد المنصور تخليداً وتكريماً لأسلافه وفي رواية اظهاراً لثروته وعظمته! أياً يكن فإن الجمال والعظمة هو مايميز هذه التحفة المعمارية الأخرى في مراكش.  الأضرحة موزعة على قسمين وعدة غرف مزينة بالنقوش الجصية والثريات الملونة وأرضيات الفسيفساء الملونة.

مطعم حديقة مراكش الغداء في حديقة مبنى يعود للقرن السادس عشر وبين الأشجار وعلى أرضية خضراء أخرى تتمشى عليها بهدوء سلحفاة صغيرة هو متعة بصرية ولذة مضافة لقائمة ملذات مراكش. خيارات منوعة مابين أطباق مغربية وعالمية و في الطابق العلوي بوتيك لمصممة مغربية قد تجد فيه مايعجبك.

ديفرينت كونسبت ستور لعلامات محلية منوعة مابين الملابس والعطور والاكسسوارات. لعلك تتوقف عنده بعد خروجك من المطعم وتقتني قنينة عطر بريح العنبر هدية لشخص يذكر العنبر به دائماً.

جامع الكتبية معلم تاريخي آخر وأكبر مساجد مراكش. تم بنائه واكماله على يد ثلاثة من الخلفاء الموحديين وضمته اليونسكو في عام 1985 ميلادي لقائمة التراث العالمي. تأثر الجامع بشكل كبير بالزلزال الذي أصاب مراكش 2023 . الجامع قريب من ساحة الفناء فلعلك تقف عليه في طريقك منها أو إليها.

 اختم الجولة أيضاً بساحة الفناء وخصص اليوم الأخير في مراكش للتسوق والتسوق ثم الاسترخاء. أما التسوق فعليك بالأسوق الشعبية في طريقك سوق السمارين وسوق الصباغين وسوق جامع الفنا.. جهز شنطة مناسبة تُحملها بالقفاطين والصابون والنعل وأواني السيراميك الملونة وزيت الآرجان.

طبعاً لن تنتهي زيارتك للمغرب دون تجربة حماماتها. المامونية خيار لأرقى حمامات مراكش إن كنت ترغب ولو لساعات أن تعيش رفاهية القصور وتجرب شعور سلاطينها كل ماعليك هو الحجز المسبق للحمام.  يعتبر قصر المامونية معلم تاريخي في المدينة القديمة محاط بأسوار لها تاريخ يعود للقرن الثاني عشر، ما إن تدخل هذه الأسوار حتى تنتقل لعالم موازي. النصيحة الذهبية هنا: تؤخذ الدنيا على مهل. تمهل في الحمام وأضف المساج له ثم اقض ماتبقى من الوقت في حديقة القصر متلذذاً بالآتاي (لا أذكر القهوة كثيراُ لأن الموجود اسبريسو غالبا وغير جيد) و بخيارك من الحلويات وسأنصح بتارت اللوز من جديد والذي سيفاجئك بأنه فعلا جاء من مطبخ قصر. بينما ترهف سمعك لصوت الشجر والعصافير ستفاجئك يد البستاني في حديقة القصر تمد لك اليوسفي اللذيذ.

مراكش رحلة حمراء لتدليل الحواس، فاستمتع بها وبأكواب الآتاي الذي يقول عنه سعيد صاحب محل القفاطين بينما يمده لي : “احنا نشرب الشاي على خاطر الحلو فيه” معترضاً على رفضي لإضافة السكر.

سيلان: قائمة الأمنيات

سرنديب أو لؤلؤة المحيط -كما يناديها أهلها- كانت خطة الطوارئ والمقترح الثاني لرحلة يوم الميلاد في يوليو الماضي. كانت الرحلة المقترحة قصيرة وموعدها قريب الأمر الذي جعل سيلان تقفز من خطة طوارىء وخيار ثاني لتصبح الخيار الأفضل في ظل سهولة السفر لها؛ فيزا سريعة سهلة، ورحلة مباشرة معقولة المسافة والتكاليف.

هذه الرحلة الوحيدة في حياتي التي اعتمدت فيها على سائق خاص ومرافق دائم. كنت متحمسة جداً لهذا النوع من الرفاهية حتى اكتشفت مع الأسف أن من اعتادوا الركض في سفرهم دون أن تحدهم خطط أو يرشدهم قائد يضيقون ذرعاً بهذا الدلال. يضيقون حين تقطع بهم السيارة الطريق مسرعة بينما يتوقون للتووقف ولمس الشجرة المائلة برأسها على كتف شجرة أخرى وكأنها تخبرهم كيف تكون الطمأنينة..  يضيقون حين يتجاوزون كشك التذكارات المصنوعة من قشور جوز الهند والذي تلوح صاحبته بابتسامة للمارة، يضيقون حين يمنحهم السائق ثواني معدودة فقط لالتقاط صورة لورل الماء الذي قرر أن يتسكع على الطريق المسفلت و بأسى يقولون :” رغبت في لمس ظهره”! كركاب تفوتنا الدهشة الممتدة على جانبي الطريق ويفوتنا الاحتفاء بالتفاصيل فنصبح مجرد عابرين.

قطار الأحلام

إحدى الصور الحاضرة في ذهني دائماً لسيلان صورة قطارها الشهير ذو الأبواب والنوافذ المفتوحة والذي يسمح لك بالوقوف ببابه والتقاط صورة للعمر/للذاكرة بينما يمر على أجمل المناظر الطبيعية. منيت النفس بالوقوف بباب القطار الأزرق وأنا أبتسم ثم أوثق اللحظة كتأريخ لا يُنسى. أول الصدمات (حتى تتفادوها) أن محاولة حجز تذكرة للقطار في اليوم السابق للرحلة المقصودة محاولة فاشلة فجميع التذاكر مباعة ولا عجب فالصورة بباب القطار حلم الكثير وفي قائمة أمنياتهم. عشمني موظف المحطة بالحصول على تذكرة في نفس اليوم لو اتيت للمحطة قبل موعد القطار بوقت كافي وحذرني بأن ذلك سيعني أني سأركب ولكن لا يعني أني سأجلس. قطعت الطريق من نوراليا لى ايلا واقفة لمدة ثلاث ساعات فمن أجل أمنية تهون الوقفات كلها. نجحت في تحقيق أمنيتي بتعاون الكثير من الركاب ممن أفسحوا لي الطريق فالقطار يغص بالركاب وليس كما أشاهده في الصور يبدو خالياً من السهل الوقوف ببابه والتقاط صورة احترافية. تبرع عاشقان يونانيان بمكانهما لي مع كافة الدعم المعنوي والمادي الذي بدأ بجذب يدي من داخل المقصورة لأصل للباب ومساعدتي على الوقوف على عتبته المتحركة كما وقفا خلفي لتقديم أي دعم طارىء. شارك رجل آخر في الفريق التطوعي الذي عمل لدعم الالتقاطة المنشودة بعد أن رميت له بهاتفي النقال وأنا أتعجل لأقفز باتجاه الباب وشرحت له فكرة اللقطة بسرعة : أنا أطل من الباب وأنت تطل من النافذة  وتلتقط لي صورة! أعتقد أن شرحي لم يكن موفق إذ تعلقت لدقائق خارج باب القطار الذي كان يقطع طريقه بين الجبال حتى أدرك الشخص الغاية من الهاتف الذي بين يديه وأن المقصود ليس فقط أن يبتسم لي ويلوح بالهاتف! تحتفظ ذاكرة جوالي حالياّ بعشرات الصور لي ولكل من تناوبوا على الباب بعدي حيث واصل الرجل التقاط الصور للجميع على حساب ذاكرتي!

الشاهي السيلاني

أردت أن أجرب قطف الشاهي في حقول سيلان فتنصلت من سائقي بحجة أني لن أستيقظ باكرا وكانت هذه الحجة الوحيدة التي ستجعله ينام بسلام دون أن يقبض علي أثناء خروجي بمفردي. ركبت أول عربة توك توك توقفت عند باب الفندق وشرحت للسائق أمنيتي والذي بدوره حاول أن يظهر تفهمه وعلمه لكني بدأت أشك في ذلك ما إن رأيته يتجه لمسار مختلف ثم يحدثني عن ابنه العاطل عن العمل ثم يقترح فجأة أن أذهب بصحبته للمنزل لأرى هذا الإبن على أمل أن أجد له عمل في السعودية! بكل هدوء شرحت له أن اعطائي رقم الابن يكفي و سأبذل جهدي للتواصل معه أما حالياً فالوقت ضيق. عدت للفندق لأجد السائق بانتظاري بوجه متجهم لكنه طيب خاطري الخائب بعد رحلة التوك توك الفاشلة وأخذني لأحد الحقول بنفسه. التقيت بالسيدات يمارسن عملهن اليومي (قطف ورق الشاهي)، شرحن لي أن هذا العمل الشاق على المرتفعات وفي مختلف الأحوال الجوية لا يتلقون مقابله سوا 2 دولار في اليوم! ضاقت نفسي بالساري الذي ارتديته من أجل هذه اللحظة تحديدا، وبسلة القش التي علقتها على رأسي لأتماهي معهن ولأضع أوراق الشاهي فيها والتي كنت أستغرق دقائق لأفحصها قبل قطفها بينما كانت سلات رفيقاتي تمتلىء بالورق في ثواني بينما تمتلىء أيديهن بالخدوش! كلما رأيت حالياً (استكانة) شاهي تذكرت منظر (الغلابى) على المرتفعات بأيدي متشققة و2 دولار!

كانتي ودرس الطهي

استقبلتني كانتي في بيتها بلهجة سعودية مرحبة و بكوب شاهي (مخدّر) احتضنتها مباشرة ما إن أخبرتني أن العمل في ( الخرج ) سرّ لهجتها المتقنة، احتضنتها واحتضنت مسقط رأسي في لهجتها وروحها الطيبة. كنت كالطفل في مدينة الملاهي يرغب في تجربة الأشياء من حوله. بدأت بالآلة التقليدية العجيبة والمستخدمة لبشر جوز الهند، بعدها قفزت للطاولة القريبة من النافذة لأضع الجوز وأطحنه مع الفلفل باستخدام حجر يشبه الرحى لأصنع الأسمبل (طبق سيلاني شهير) حتى نضعه مع خبز الروتي الذي عجنته كانتي وسمحت لي بفرده وخبزه على الحطب. درس طهي مثالي يتفوق على الدروس المقدمة في أرقى أكاديميات الطهي لأنه مقدم بحب وببساطة، بساطة تسألني بها كانتي عن أمي وأبي ولماذا أسافر لوحدي فيتحول بيتها لجلسة دعم نفسي حين أخبرها بوفاة الاثنين وتركي وحيدة أضحك لاحقاً حين أتذكر انفتاح المشاعر الذي عشته في بيت كانتي.  

أعتقد أن سيلان بقائمة أمنياتها كانت رحلة لائقة ببداية فصل جديد في حياتي، أكرمني السيلانيون فيها بدءً بغناء المضيفات لي وقوائم التوصيات التي حرصوا على كتابتها عندما علموا أني أحتفل بميلادي في بلدهم، مروراً بباب القطار الأزرق، وانتهاءً بكانتي وبيتها الرحب الذي وسع مشاعري فانهمرت فيه..

مطار كولومبو : المسافة بين الوطن والغربة

صالة المغادرون

عرفت ماينتظرني في صالة المغادرين بمطار كولومبو بمجرد أن توقفت دقائق عند الباب الخارجي لأسمح للسيدة الأربعينية التي تقف أمامي أن تنهي توديع ابنتها وحفيدها وتدفع أمامها العربة المحملة بحقيبتين من المقاس الكبير. يقول ختم الخطوط المنسي على ظهر إحدى الحقائب بأنها جاءت من الكويت وغالباً ستعود له على الأقل هذا ماتؤكده المشية الرصينة لصاحبتها وطريقتها في اللبس والجديلة الممتدة على طول ظهرها. دمعة أخذت مجراها على خد الفتاة دون أن تعبىء بيد الأم التي تحاول إيقافها وأسى في عين الأم لم تزده نظرات الطفل إلا أسى..

حقائب تتأهب للغربة

أقف في طابور تغليف الحقائب لكن دوري لا يأتي؛ كلما رأيت عينين محمرتين وشاشة جوال مفتوحة على غرفة وعائلة تراجعت للخلف ليتقدم صاحبها لعل هذا يطيب خاطره ويهون غربته. أعرف من شكل الحقائب وعددها عمل صاحبها وعدد المرات التي ودع فيها عائلته ومضى لبيت وعائلة أخرى. ثلاثينية ترتدي جينز وقميص سماوي تضع على ماكينة التغليف حقيبة ثم الثانية ثم الثالثة، أعتقد أنها عملت ست سنوات وهذه اجازتها الثالثة وتعود للخليج للمره الرابعة فما زال منزلها بحاجة لسنوات اضافية من العمل حتى يكتمل ثم هناك قطعة الأرض الصغيرة بجواره التي ستزرعها لتبيع محصولها إما في كشك على جانب طريق سياحي أو في محل بقالة بجانب بيتها وهذا ماسيحدده المبلغ المدخر. ابتسم للعشريني خلفنا وأشير له أن باستطاعته تجاوزي فرغم الصلابة التي يبديها إلا أني أعلم من تقافز الأطفال على شاشة الجوال والوجع في عيني زوجته أن الفراق مرّ والغربة مع الفراق مرارة مضاعفة وأعرف أيضاً أن الحاجة أكثر منهما مرارة. يضع حقيبة على الجهاز ثم الثانية فأعرف أن هذه عودته الثانية لنفس الكفيل وأن الحقيبة الخضراء القماشية محملة بالشاهي السيلاني فغرفته الصغيرة في الفناء الخارجي لبيت كفيله تتحول في ليالي نهاية الاسبوع إلى (نوراليا)* صغيرة تفوح برائحة سيلان.  العجوز التي غطى رأسها الشيب ذات البنجابي الأزرق لم تنتظر في الحقيقة أذني لتتخطاني فبثقة المربيات أزاحتني من طريقها برفق لتضع كرتونين ثم حقيبة كبيرة، زبديات مصنوعة من جوز الهند مع علبة زيت جوز هند وكاكاو خام وفانيلا طبيعية كلها أعتقد انها مكونات مسافرة لابنتها بالتربية والتي تدخل الآن مرحلتها الجامعية وتبدأ مشروع لصنع الكيك بتشجيع ومساعدة هذه السيدة. يناديني العامل للتقدم وأنا شاردة لم أنتبه أن الجميع قد قضى حاجته وشد وثاق حقائبه / مشاعره.

بطاقة صعود الطائرة

طابور طويل بجانبه طابور أطول يستعد لقطع بطاقة صعود الطائرات المتجهة لدول الخليج. فتاة في بداية العشرينات بحقيبة واحدة صغيرة جداً أعتقد أنها تحمل مشط وبعض الملابس الداخليه وصور. قبل أن تنتهي عيني لنهاية جديلتها أسفل ركبتها سمعت صوت شهيقها ، بكاء غير منقطع ورغم كل هذا الوجع بدا أنها تستميت حتى لايصدر منها صوت لذا سرحت مع الجديلة ولم انتبه للدموع إلا حين فرطت منها الشهقة! ارتبكت أو بالأصح ارتبكنا أنا والرجل الخمسيني الطويل الواقف أمامها بقامه مشدودة يتابع حديثاً صوتي على الوتساب؛ لهجة قصيمية على الطرف الآخر تحاول تأكيد تفاصيل وقت الوصول. قطع التسجيل ما إن سمع الشهقة والتفت ليحدث صاحبتها ، حديث طويل سريع يبدو أنه يطمنها ويحدثها حديث وردي عما ينتظرها أو ربما يخبرها بما ستحصل عليه بعد سنتين من العمل. كبحت الدمعة التي علقت غصة في حلقي ومددت لها منديل وحبة معمول تمر كنت أحمل الكثير منه في حقيبتي، وددت أن أقول أننا طيبون ونرحب بك وأن كل شيء سيكون بخير. اشارة الموظف للرجل ولصاحبة الجديلة الطويلة ثم لي نبهتني أن كل شيء في النهاية سيمضي ولا شيء سيقف من أجل خاطر شعور عابر لشخص عابر.

بوابة 34

الشابة الباكية عند طابور بطاقة الصعود تجلس على كرسي تحتضن كيس قماش صغير تخرج منه رغيف روتي وقصدير فيه سمبل (طبق سيلاني مكون من جوز الهند والفلفل المطحونة) تغمس الرغيف في السمبل وتحاول التصبر بما بقي في حوزتها من ريح سيلان. بعيداً عني وعنها ينام زوجان بجانب بعضهما، رأس الزوجة على كتف الزوج ورأس الزوج على رأسها مشهد حميمي جداً لو هيىء لي لاحقاً أن أرسم أكثر المشاهد الحميمية لاشترك به في مسابقة لرسمت المساحة الرحبة لكتفه ودفء رأسها ثم جميعنا حولهم في المطار أقزام صغار. أعتقد أن سلام كهذا يجعلها المره الثانية لهما كسائق وعاملة في منزل محايد لا يلتفت لمغترب ولا يشيح عنه. على طاولات ماكدونالدز بالقرب من البوابة اصطفت مجموعات أخرى وطبقة مختلفة أزواج مع أطفالهم، كمبيوترات محمولة ، أحاديث وضحكات ولا وجود لشاشة جوال مفتوحة على بيت وعائلة ودموع. أتأمل هذه الحياة وأتأملنا بشراً لا يفصلنا عن بعض شيءٌ مرئي لكن يفصلنا الكثير مما لا يرى!

E18مقعد  

كنت في المقعد الوسط بين سيدتين إحداهما خمسينية والثانية في العشرينات. أما الخمسينية فقد بدت هادئة جداً رزينة حتى أني  لم أعرف حزينة كانت أم سعيدة لذا خمنت أنها تعود لبيت رمادي، لا ضحك ولا بكاء لا صراخ ولا ملاطفة. العشرينية كانت تبدو بحماسة المرة الأولى لشخص يحب المغامرة ويتطلع للتجربة. على شاشة الجوال شاب عشريني متمدد على فراش ويضحك و بمجرد أن جاء الأمر بإغلاق الهواتف المحمولة حتى بدت في حيرة من امرها فعرفت أن الجهاز جديد ابتاعته لأغراض الغربة. ما إن وضعت الهاتف في حقيبتها حتى بدت كمن أدرك هول الصدمة فبدأت بالبكاء، أخرجت حبة معمول ووضعتها في يدها وابتسمت أردت أن أقول لها هي الأخرى ماحاولت قوله للفتاة في طابور بطاقة الصعود. اقترحت عليها مستعينة بالإشارات أن تتفرج على فلم هندي علّ في الدراما الهندية عزاء لدراما شخصية.

صالة القادمون  

هبطت الطائرة في مطار الرياض، بدأت الأحزمة تنفك تأهب الجميع للنزول  حبة المعمول في يد صاحبتها، السيدة الرزينة لا ضاحكة ولا باكية ، شاهدتها عند الخروج من باب المطار تجر حقيبتها باتجاه سيارة تويوتا عائلية وبانتظارها سائق فلبيني منهمك في النظر للشاشة بين يده والتي أحسبها مفتوحة على عائلة في مانيلا،  رجل ينتظر عند بوابة الخروج يمد لي هاتفه بصورة  لسيلانية في العشرينات تبدو مرحة ويسألني أن كنت رأيتها في الداخل..

*نوراليا: مدينة في وسط سريلانكا شهيرة بحقول الشاهي

سريلانكا: ثرثرة الميلاد وأمنياته

كان من المفترض أن أبدأ تدوينة من هذا النوع ب عبارة (احتفلت في السابع عشر من يوليو بعيد ميلادي) ولكني في الحقيقة لم أحتفل بل استيقضت أتساءل لماذا أرسلت لي إحدى شركات الطيران عرضاً خاصاً!  انتبهت سريعاً أن اليوم يوافق يوم ميلادي (السابع عشر من يوليو) طبعاً مناسبة كهذه محفوظة بعناية آلية على أنظمة شركات الطيران ومواقع السفر التي أتعامل معها فتقوم سنوياً بتذكيري بأني أدخل عاماً جديداً يعني مناسبة تستحق الاحتفال بشراء أحد عروضهم!!
 تفوقت تقويمات الصديقات على آلية المواقع والذكاء الاصطناعي، فوصلني الورد من ريم في بريطانيا ، أصيص من فخار كبير تقول شعرت أنه يشبهك وأنك ستحبينه وشعورها في محله أعجبني وأحببته فهو لم يشبه شيئاً قبله ولا أعتقد أنه سيشبه شيئاً بعده فهو أولاً وأخيراً من ريم.. غادة صنعت لي كيكة شوكولاته بكريمة من الأفوكادو وجوز الهند وشوكولاته سوداء، وصفة مدهشة تناسب معاييري الغذائية اخترعتها خصيصاً ليوم ميلادي طعمها اللذيذ هزم تحيزي المتطرف ضد نكهة الشوكولاته في الكيك..

أما نورة فأرسلت بصحبة الكيك صوتها العذب حتى في تعبه تغني :

هذه الاحتفاءات الحميمية بعيداً عن عروض الشركات جعلتني أدخل سنتي الجديدة دخول الفاتحين، أنا التي نشأت في عائلة ككثير من العائلات النجدية لا وجود لأعياد الميلاد في تقويماتها خاصة لمواليد جيلي، ولدت أعرف جيداً حفلات النجاح وقوالب الكيك الكبيرة المزينة بمبروك النجاح لكني لم أرى كيكة ب (عيد ميلاد سعيد) إلا في عمر متأخر..
في تركيز شديد يحدث للمرة الثانية بعد أربع سنوات رتبت لرحلة خاصة لهذه المناسبة و إن لم تكن في ذات اليوم.. رحلة ميلاد قصيرة أقصد فيها بلداً جديداً أعتزل فيه حياتي الاجتماعية ووسائل التواصل الاجتماعي  وأجلس مع نفسي لنرى مانحن فاعلين ومدى رضانا عما فات واستعدادنا لما هو آت. حاولت أن أقلد من يفعلونها وينجحون وإن كنت في اليوم السابق لسفري أتجادل مع صديقة حول فكرة اعادة تقييم الحياة في يوم الميلاد أورصد الأمنيات للسنة الجديدة! أقول لها بجدلي المعتاد من قال أن يوم الميلاد لابد أن يكون يوم جرد وتصفية حسابات خاصة لشخص مثلي يقوم بهذا النوع من التصفيات و الجرد بشكل يومي! من قال أني خزنت أمنياتي لأسردها في يوم الميلاد! لدي أمنيات يومية لاتلبث أن تصبح أهداف أطاردها في كل وقت دون تاريخ صلاحية معين!

قضيت الأيام الماضية من أواخر يوليو أتنقل في سرنديب وأنقل فؤادي في جمال لؤلؤة المحيط وأخبر كل من أمر عليه من أهل البلد بأنها رحلة الميلاد، تجولت بين مزارع (الشاهي)، ركبت التوك توك (من وسائل النقل المحببة لنفسي)، ارتديت الساري، وحققت أمنيتي في أن أطل بجسدي خارج باب القطار- اللقطة الشهيرة للقطار السريلانكي المعروف بأنه أجمل قطارات العالم- عجنت خبز الروتي الشهير وخبزته على الحطب، بشرت جوزالهند بآلة تقليدية وأتممت المهمة محتفظة بكامل أصابعي الخمسة ودون جروح، تربعت في منتصف سكة حديدة وألتقطت صورة كانت  تراود خيالي منذ زمن ، لم أفوت فرصة ركوب الدراجة بين حقول الشاهي ولا الجلوس على حافة التسعة جسور الشهيرة وأخيراً شربت الكثير من الشاهي السيلاني دون أن أشعر بالذنب لمخالفتي توصيات طبيبي الذي يرى أن علي الامتناع تماماً عن شرب الشاهي والقهوة..


كل هذا فعلته دون أن يتخلله جرد حسابات ولا تقييم أداء وظيفي سنوي ولا كتابة أمنيات حتى جاءت هذه اللحظة تحديداً صباح اليوم الأخير لرحلتي وقبل الذهاب للمطار بساعات، افتح مذكرة هاتفي النقال وتنهمر الكلمات مطراً غزير أو لعله السيل الذي يقول عنه أخي ناصر :”مايبطي بالسيل إلا كبره” ! هل قصدت الكلمات أم قصدتني لا أعرف كل ما أعرفه أني استيقظت لأجلس أمام المحيط في غرفتي في فندق بالعاصمة كولمبو وأشعر فجأة برغبة في الكتابة! رغبة في حديث النفس للنفس ولكن على الورق، رغبة في التعبير عن سعادتي بأن كل خططي تسير بأفضل مما خططت له، وأني راضية عن وظيفتي التي طالما راودتني الشكوك في مدى مناسبتنا لبعضنا حتى تيقنت هذه السنة أنه العمل الذي يمنحني قدر الحرية الذي أحتاجه لأكتشف سماوات أرحب خارجه بينما يمنحني هو ذاته المساحة التي أحتاجها لأترك أثراً طيباً في نفوس كثير لم أكن لأبلغهم لولا التدريس الجامعي..

أخيراً كانت سنة طيبة شطبت فيها أهداف وأمنيات ، سافرت فيها شرقاً وغرباً، تصالحت فيها مع أشياء كثيرة، وأخيراً بلغت بنهايتها حلماً يراودني منذ زمن حتى قال له العزيز كن فكان!

الهند: حكاية الرحلة الحلم

كانت الهند على رأس قائمة أمنياتي للسفر منذ عمر صغير قبل حتى أن يصبح السفر جزء من روتين حياتي. رتبت هذه الأمنية في القائمة من الأعلى وأصبحت أتفقدها سنوياً عند كل خطة سفر جديدة فأُخرج جزء من شبه القارة وأستعد لأيمم الوجه شطره لكنهُ مرة يتحول لفيتنام وأخرى لتونس ومرات ومرات لأوروبا. ببساطة عند كل خطة سفر جديدة يتصارع جزء من الهند مع مدينة لاتفوح منها رائحة البهار ولا تعرف لفة ( الساري) لكنها رغم ذلك تنتصر وتهزم البلد الذي طالما حلمت أن أتجول في شوارعه مرتدية الساري  ومتذوقة البرياني تهزمها بحجة أن المدة القصيرة لا تليق بشبه قارة. ما إن أمنح صوتي لمدينة أخرى  كوجهة سفر حتى أتهرب بعجل وأنشغل في لملمة حاجياتي لكي لا أنظر في عين الهند وأرى الخذلان… تبقى الهند بعد كل صراع في زاوية القلب تنتظر دورها بحزن من يرى أن العشرة لم تثمر في صاحبه وفي الوقت نفسه بثقة من يعرف أن صاحبه وإن ابتعد سيعود معتذراً له.

مأساة التأشيرة

في نوفمبر ٢٠٢٢ عدت معتذرة للهند بعد أن تصالحت مع فكرة زيارة جزء صغير منها. توسلت لسفارتها أن ترحم شغفي ببلدهم وحلمي بالسفر لها وتتغاضى عن كل القوانين التي اخترقتها بحضوري للسفارة رغم علمي بالتحذير الذي ينص على مراجعة مكتب التأشيرات وعدم الحضور للسفارة في حالات استخراج التأشيرات. هذه المرة صرعت الهند سيرلانكا وتايلاند وشامونيه غلبتهم جميعا وانتصرت لذكرياتي مع الأغاني الهندية ومشاهد الأفلام الرومانسية وغرامي القديم بالبرياني شديد الحرارة. هذه المرة كانت الهند (داعيتني) وهي عبارة كانت والدتي ترددها لكن عن مكة كلما قرر أحدهم بشكل مفاجئ وجازم السفر لها. هذه المرة دعتني الهند دعوة سريعة ومفاجئة عليّ تلبيتها بعد أسبوعين. لم أستطيع العثور على موعد للتقديم على التأشيرة سوا موعد بعيد بعداً قربني من السفارة و جعلني أطرق بابها وأقف خلف زجاج موظفي أمنها شارحة لهم أني سأذهب للهند بعد أسبوعين سأذهب وهذه المرة لن يقف في وجه أحلامي أي شيء حتى وإن كانت تأشيرة البلد. في الحقيقة إن كنت سأعترف بشيء فهو أني مزجت بين شخصيتين لأقنع موظفي السفارة بتسهيل استخراج التأشيرة لي؛ أما الشخصية الأولى فهي بريئة جداً لا تعرف القوانين والأنظمة لذلك حضرت للسفارة من أجل تأشيرة ومن يعرفني يعرف جيداً أني أبعد ما أكون عن هذه الشخصية أما الثانية فهي أنا التي كلما حاولت ترويضها حتى تحظى بفرص أفضل وحتى لا تنتهي بمصيبة أبت إلا أن تظهر! هذه الأنا ذات حجة ونفس طويل في الجدل فتعترض على الدبلوماسي الذي حضر أثناء وقوفها بباب السفارة وتعداها ودخل محفوفاً بإذن وترحيب موظف الأمن ليخرج وقد انتهى من إجراءات التأشيرة! الحمدلله أن موظفي سفارة الهند كانوا في صفي من الناحية النظرية للمساواة ولكن القوانين هي من تحكم الجانب التطبيقي مع الأسف! ما بين جدلي البريء والحقوقي تم تمرير أوراقي بعد توبيخ بسيط وظيفته شد أذني بطريقة أتذكرها مستقبلا فلا أحضر للسفارة من أجل موضوع بسيط كالتأشيرة. بالمناسبة لا أنصح أي أحد بفعلها، كل ماعليكم هو الترتيب المسبق للسفر لتمنعوا أنفسكم اللهث ما بين مكتب التأشيرات و السفارة. رضت عني الهند وقبلت اعتذاري ومنحتني تأشيرتها في غضون ثلاث أيام عمل و بإتصال خاص من موظف السفارة الذي تبنى قضية الفتاة التي تحلم بزيارة الهند وتخشى أن تحول التأشيرة بينها وبين حلمها. اتصال الموظف واهتمامه بالموضوع وبشارته لي بأن تأشيرتي جاهزة وطلبه لحساب الانستقرام الخاص بي ليتمكن من مشاهدة الهند بأعين زائرة محبة كانت أول علامات ما ينتظرني في الهند من تواضع وبساطة هي حتماً مايصفه طاغور حين يقول : ” ندنو من العظمة بقدر ما ندنو من التواضع”.

شيء من التخطيط

بعد الحصول على التأشيرة لم يبقى سوا حجز الطيران المؤكد  إذ أني كعادة أي مسافر استخدمت حجز وهمي للحصول على التأشيرة حتى لا يضيع مالي سدا في حال كانت البيروقراطية أقوى من خططي المفاجئة والسريعة.بالنسبة لي كانت الهند في زاوية القلب منذ سنوات بعيدة منذ أن كانت ليالي السهر في المراهقة خلف شاشة التلفاز في شوارع دلهي وبين بيوتها وأغانيها لذا كنت أعرف جيداً أن رغبتي القديمة والصغيرة كانت تدور حول المثلث الذهبي؛ نيودلهي واغرا وجايبور كزيارة أولى قصيرة سيتلوها عدة زيارات.  قرأت كثيراً عما ينتظرني في هذا المثلث وأطلعت على مخطط مقترح للرحلة من إحدى الشركات الكندية التي يروقني أسلوبها في السفر. هذا كله جعل الطالب الحريص داخلي يصنع مذكرته الملخصة والبسيطة للبلد ولأني أسافر دائماً بحثاً عن التسكع ودهشة الطريق لم أشغل بالي بالأفضل وال(يجب)  كانت أعظم أهدافي في رحلة الهند تتلخص في  التجول بالساري الهندي في شوارع دلهي وركوب الركشة الهندية (التكتوك) والتسكع بين الهنود بملامح طالما قابلها الهنود في بريطانيا بأنها (منهم وفيهم) وقد جاءت الفرصة لاختبار هذه الملاطفة..

ختم دخول

وصلت مطار نيودلهي لأكمل حلقات التواضع والبساطة التي وجدتها في السفارة فبينما كنت أقف منتظرة دوري في تفتيش الجوازات أشار لي موظف في كابينة القادمون ذوي الجوازات الدبلوماسية. ابتسمت له ولوحت بجوازي الأخضر الفاتح بما لا يكفي ليكون دبلوماسياً تحسباً لما  إذا كانت هيئتي لا تكفي لتقول الشيء نفسه. قابل الموظف الابتسامة بابتسامة وأشار لي بأنه لا بأس، استلم الموظف جوازي وفتشه قبل ختمه وبدأ بالأسئلة المعتادة وقابلتها بالأجوبة المعتادة : زيارة، أول مره، أسبوع، أكاديمية في الجامعة ..وهنا توقف ورفع رأسه وابتسم: واووو ممتاز وظيفتك رائعة حقا رائعة وتدعو للفخر! لأول مره تحصل وظيفتي على هذا التقدير من موظف جوازات أو لنقل لأول مره يعبر أحدهم عن تقديره. رغم سفري الكثير إلا أن موظفي الجوازات والهجرة كانوا دائما مصدر توتر بالنسبة لي والوقوف بطوابيرهم أصعب وقوف تختبره نفسي عدة مرات في السنة. في طريقي للخروج سلمت جوازي لآخر موظف يقف بيني وبين الباب ليفحص ختم الدخول، صاح الموظف بفرح: سعودية! هل شاهدتي كأس العالم؟ السعودية هزمت الأرجنتين مبروك! كان اليوم خميس وقد هزمنا الأرجنتين يوم الثلاثاء. شكرا للكرة وللرياضة وللمنتخب وللموظف اللطيف الذي لم يجعلني أمر مرور العابر ومنتخبنا قد هزم الأرجنتين.

رجل الرحلة

إن كنتُ قد سافرت للهند دون مخططات تفصيلية ودون حتى حجوزات فنادق فلأني كنت واثقة أن أي خطط سياحية لن تستطيع هزم خطط  خمسيني من أهل البلد ـجولفام رفيق الرحلة ومرشدها أحد العاملين السابقين في الرياض قبل أن ينقل عمله ويعود للهند-ـ  كانت خطة جولفام هي أن آتي دون حجوزات فنادق لنترك للأمر من السعة مايجعلني أطيل البقاء في المدينة حين أحبها وأغادرها حين أكتفي منها وأختار الفنادق بعد أن أراها بعيني لا بعد أن أرى عدد نجومها وتقييمات المتطرفين لها حبا أو كرهاً. رغم أني سبق واتبعت هذه الطريقة في فيتنام إلا أن هذه المرة مختلفة ففي فيتنام كنت أملك شهر يتسع للتنقل والتسكع من مدينة لأخرى ومن مسكن لآخر لكن في الهند كل ما أملكه هو أسبوع غير قابل للزيادة فهل عساه يتسع لصنع ذكرى عظيمة تليق ببلد أحلامي.  جولفام يعلم مسبقاً هدفي المحدد الوحيد في هذه الرحلة وهو زيارة مدن المثلث الذهبي بغض النظر عن أي مدينة تسبق الأخرى وكم مدة البقاء في كل واحدة وأين سأقيم. المفاجأة التي لم أكن مستعدة لها على الإطلاق والتي تصلح كمثال لدعاة الخروج من منطقة الراحة هو أني خرجت من المطار بصحبة جولفام وسائقه أتطلع لنيودلهي وماينتظرني فيها لكن الطريق بدأ يطول وينحرف باتجاه الشمال الشرقي مما لم يدع لي مجال للشك بأن طريقنا الحالي لن يتقاطع أبداً مع دلهي وهنا كانت المفاجأة الأولى إذ أن قائد الرحلة  قرر أن نبدأ بالشمال صعودا باتجاه جبال الهمالاياحيث مدينتي: دهرادون وميسورو! هذه المفاجآة التي تقتضي قرابة خمس ساعات بالسيارة لشخص وصل للتو من رحلة أصابتني بالخرس المؤقت. كون خططي بسيطة غير تفصيلية لا يعني أن أقصد وجهة لم تكن ضمنها ولا أعرف أي شيء عنها على الإطلاق!  جولفام معزياً لي حين لمح الصدمة في عيني: صدقيني ستبهرك أكثر من دلهي، لدي خطة ستعجبك، من يزر الهند ولا يزور ميسورو لا يعتبر زار الهند. استرجعت كل كتابات وتوصيات وتغريدات المتفائلين والمختصين في تطوير الذات وحاولت أن استمتع باللحظة وانظر للنصف الممتلئ من الكوب. هنا كانت أول دروس الحياة في الرحلة الهندية؛ أحياناً كل ماتحتاجه هو أن تتخلى عن الخطة وتنفتح على كل الاحتمالات. دهرادون وميسوري شمال الهند انتهت لتكون هي العلامة والذكرى الفريدة والمميزة لرحلتي، لذا أوصيكم ونفسي في السفر أن تتركوا مساحة للخروج عن النص وتقيسوا بعد ذلك حجم الدهشة.

على ظهر دراجة نارية

 في اليوم التالي لوصولنا لدهرادون صعدنا لأعلى الجبال باتجاه ميسورو (ملكة التلال) و (مدينة الحب) وكان الارتجال والمفاجأة الثانية لجولفام حين قصد أحد الشبان المصطفين عند الدراجات النارية لتأجيرها وهو يقول لي أن اكمال الصعود للجبال وصولاً لشلالات كميتي يستدعي ركوب دراجة نارية! لحظة المكاشفة هذه أعادت لي ذكرياتي في طريق (جبال القهر) في جازان وأنا في سيارة دفع رباعي بقيادة مرشد متخصص في صعود هذه الجبال ومحاطة بالصديقات إلا أن كل هذا لم يهدئ روعي وأنا أشرح لهم أني في المرتفعات لا أثق بأي وسيلة نقل سوى قدمي وأحاول اقناعهم بتركي أمشي صعودا للجبل! الأمر نفسه الذي حاولت اقناع جولفام به؛ أن نصعد بأقدمنا دون الحاجة لدراجة نارية. رغم أني سبق وجربت التنقل بالدراجة النارية في فيتنام إلا أن التنقل كان في شوارع منبسطة وبخوذة تحمي رأسي من أي احتمالات خطرة وبمرآيا تساعد سائق الدراجة على تفادي أي مخاطر باختصار كنت أشعر بالأمان. أما الآن فالطريق ضيق وعلى مرتفع ولا خوذة للراكب ولا مرآيا للسائق أي أننا سنقود الدراجة متوكلين على الله ومستحضرين دعوات الوالدين أن يحفظنا الله أينما ذهبنا! كنت مثل طفل يقاوم رغبة والده في تجربة لعبة جديدة في مدينة الملاهي لكن الأمر ينتهي به مبتهج يرفض النزول منها. شغلت ذهني في الدقائق الأولى من رحلة الدراجة خيالات الاصطدام بإحدى السيارات التي تشق طريقها نزولا من الجبال بينما نشق طريقنا مع دراجات أخرى صعوداً، تسائلت ماإذا كنت قطعت هذه المسافة كله من الرياض إلي دلهي ثم ميسوروا لأسقط من دراجة نارية على جبل! ذكرت نفسي بالمكتوب وصليت لتكون رحلة آمنه خفيفة وأن تكون مخاوفي غير منطقية. بعد ٤٥ دقيقة من الصعود وتجاوز الدراجات الأخرى مره وتجاوزهم لنا مرات وصلنا لنقطة التوقف، انطلقنا لأقرب استراحة في الجبل وهي عبارة عن مكان مغطى بمظلة من حديد يحوي مجموعة من الكراسي البلاستيكية ودورة مياه صغيرة،  كان صاحبه يجلس ملتفاً بشال كشميري ومنحني على علبة حديد أشعل فيها بعض المحروقات ليستدفي بنارها، أشار لنا لنشاركه الدفء. كنت أحتاج وقت طويل لهضم ما أقدمت عليه لكن طيبة الرجل الذي لم يستأثر بناره الصغيرة لنفسه وشاركها سريعاً مع غريبين قبل أن يصنع لهم شراب الشاي والحليب (آلجاي) السحري جعلتني أستشعر حقيقة أن علي هذه الأرض ما يستحق المغامرة والمشاهدة والإقدام دون تعقيدات المنطق التي تحكم كل خطوات حياتنا.

أرض رحبة وقلوب أكثر رحابة

الشمال لم يفتح  عيني فقط على جمال لم أُمني النفس بمشاهدته  ولكن فتحها على الإنسان الطيب والقلوب الرحبة أكثر من رحابة الأرض التي تسكنها.  جعلني جولفام ابن الشمال الهندي وعائلته أشعر بأن الرحلة عبارة عن (كفالة يتيم) إذ دخلت في مشادات كثيرة معه على التكفل بالمصاريف لكنه بشهامة لا مثيل لها رفض أن أدفع لأي شيء طالما أنا بصحبته هذا فضلا عن عدم تقبله دفع أي مبلغ لسائقه. لا أعرف إن كان جولفام حالة خاصة أم أن أبناء دهرادون كلهم كذلك! هذا الفرض كان في ذهني في اليوم الأول حتى خرجت ليلاً من فندقي لأتجول وحدي في شارع دهرادون التجاري قبل أن يستوقفني محل ملابس قطنية بطباعة جيبوريه (نوع من الطباعة معين تشتهر به مدينة جايبور الهندية) دخلت وأبديت اعجابي بالمحل لصاحبته التي كانت بصحبة مساعدتها. بدأت التحدث معهما لأعرف أنها محامية استقالت من وظيفتها في بومباي هرباً من الضغط الشديد وشجاعة في التخلي عن الراتب الممتاز والعيشة المرفهة لتبدأ مشروعها الخاص في الحفلات وفي تزيين السيدات ثم تفتح هذا المحل الصغير في مدينتها الأم، أعبر عن إعجابي بشجاعتها أنا التي أمشي حياتي وفق خط مستقيم إن تحدثنا عن المهنة وتعبر عن شجاعتي في المضي وفق خط ثابت مستقر يعرف ماسينتهي له. قررت بهانو(صاحبة المحل) أن تنهي دوامها في المحل وتأخذني في جولة حول المدينة بعد تناول وجبة العشاء في أحد المطاعم التي تعتقد أنها ستعجبني وفي المطعم تجلى لي كرم آخر مماثل لكرم جولفام إذ رفضت رفيقة العشاء أن أدفع أي روبية وأصرت على أني ضيفتهم والدفع لي أبسط واجبات الضيافة قبل أن تدعوني لمنزلها فأستشعر كرما مضاعفاً. قضيت ليالي الشمال بصحبتها مستكشفة جمال المدينة و أماكانها الحميمية ومؤكدة إيماني بأن الإنسان مفطور على الخير و بأني دائماً سأجد هذا الخير فيمن التقيهم. هذا الإيمان  الذي ينهكني شرحه للبعض ممن يلومونني على التحدث مع الغرباء ولا يعرف حلاوته إلا من عثر على الكثير من الأصدقاء صدفة طريق..

و أخيراً دلهي  

وصلنا دلهي بعد قرابة الثمان ساعات من السفر البري وازدحام الطرقات . ارتديت (البنجابي) بفرح طفل يلبس الشماغ لأول مره في العيد وانطلقنا متجولين بين معالم المدينة. شدني أول ماشدني التجمع البسيط للناس حول بوابة الهند فلم يسبق لي أن شاهدت الناس في أي مكان في العالم يقضون نزهتهم على بساط حول قوس النصر بصحبة مشروباتهم و وجباتهم الخفيفة.. شوارع دلهي مسرح ملون مزدحم تقابل فيه لأول مره أشخاص على فطرتهم الأولى لم ينهكهم التهذيب ولا التملق ولا كل ما علمتك إياه أفلام هوليوود. شوارع دلهي هي الشوارع الوحيدة التي يأخذ فيها الحيوان بيد الإنسان ويسيران معاً؛ كلب لرجل ، بقرة لإمرأة، حمار لقرد في أعظم خليط حيواني إنساني رأيته في شارع. المشي بسلام بين كل هذه الحيوات علمني أن في بقعةٍ ما من الأرض مازال الإنسان لا يجد بأساً في مشاركة أرضه وطعامه مع حيوان. أما الزحام و التصاق الكتف بالكتف في شوارع دلهي فقد أعادني لسائحة أمريكية تجيب في موقع ترب ادفايزر على سؤال سائحة أخرى عن الأمان في دلهي فتقول: إن مسألة عدم الأمان مبالغ فيها، دلهي المدينة الوحيدة التي لا يكاد يخلو شبر منها من تجمع بشري مما يجعلك محاطاً دائما بالناس ولا خوف حين يكون الشخص بين الجميع أو بدقة أكثر احتمالية الخطر أقل. في الحقيقة هذا مالمسته بنفسي إذ كنت أخرج كل ليلة لوحدي و أتسكع في الشوارع وبين الناس دون أن أشعر بالخوف.

” ترى ماهو الامتحان الأعمق في الحب: أن تصطفي من تحب ليكون إلى جوارك في صخب الحياة؛ أم في سكينة الموت؟” محمد المخزنجي

العبارة السابقة مقتطفة من حديث للكاتب المصري المخزنجي عن تاج محل.. تاج محل بالنسبة لي حلم طفولة وبعض أحلام الطفولة تكبر معنا ولا نكبر عنها لذا اخترت أن أودع الهند به وأن يكون آخر ما أحتفظ به في ذاكرتي عنها. هذه الأسطورة المعمارية التي خلدت قصة حب الشاه جيهان لممتاز محل وعدت من عجائب الدنيا هو أول علامة تحضر في أذهان الكثير عند الحديث عن الهند ولعلي أولهم. تاج محل الذي سافرت لأغرا لأراه كان امتداداً لحب الشاه وممتاز ليس فقط بضريحيهما الخالدة ولكن بثنائيات العشاق المنتشرة في أرجاء تاج محل والتي تعلمك أن الرومانسية في الأفلام الهندية هي حقيقة يمكن مشاهدتها في الواقع متى ما زرت تاج محل.

ختم خروج

الهند تشبه المعلمة التي تصر على أن تلقنك الدرس وتتأكد من فهمك حتى و جرس نهاية الحصة يقرع. في المطار مرّ من أمامي عدة أشخاص اخترقوا طابورنا الطويل لأسباب مختلفة وفي كل مره كان الجميع يسمح لهم بالمرور ويقبل العذر ووحدي كنت أبلغ درجة الغليان حتى انفجرت وخطبت في الطابور بأن ما يحدث غير مقبول! اعتذر من خرق الطابور متعجب من غضبي وبكياسة اعتذر الرجال المصطفين في أماكنهم أمامي، اعتذروا عما لا ذنب لهم به وأصروا على أن أتقدمهم، أعينهم الهادئة جداً كانت تقول لي على هذه الأرض مايستحق توفير ثورات الغضب له.

अलविदा

ودعت الهند بعد أسبوع من السفر بين مدنها والوقوف باستراحات طرقها، ودعتها بعد الكثير من أكواب الجاي التي لازلت متعجبة من كونها مصنوعة من الفخار لكنها ترمى بعد الانتهاء من الشرب! ودعت الشوارع بناسها وكلابها وبقرها وقردتها.. ودعت جولفام ممتنة للخروج عن النص الذي علمني أن هناك الكثير من الدهشة خارج المتوقع وممتنة لكرمه وشهامته التي جعلتني بشكل لا يمكن شرحه أبكي أثناء وداعه في المطار. إن كان شاه جيهان منح السياح مايستحق الزيارة والتصوير فقد منحني جولفام والهند مايستحق التعلم والتغيير..

** صور الرحلة ومعلومات أكثر مثبته على حسابي على انستقرام @malsamih

المشي: نوافذ و حكايات

دخول الشتاء على استحياء هذه الأيام ومغازلته لقلوبنا الجافة بليالي (نسيمها من نسيم الجنة) حرَرّ حذاء المشي من قيده في شنطة السيارة. انتهيت من موعد مسائي سريع وعوضاً عن الرجوع للبيت توقفت عند (الممشى) المفضل لي حتى لا أضيع على نفسي فرصة العثور على رياض من النوع الذي تغنى به بدر بن عبدالمحسن..

ممرّ طويل يخترق مجموعة من البيوت، تحفه الأشجار من الجانبين و تتخذه القطط أمانها وبيتها.. أحب فيه هويّاته المتعددة فهو مسار رياضي للمشاة والعدائين، ملجأ للقطط، ممرّ للعشاق،  نقطة تجمع لأعراق متنوعة ومعرض عمارة يفتح عينيك على وجه مختلف لبيوت الرياض وأحيانًا ساحة عرض لسيارات كلاسيكية .. 

المشي فيه يعيدني لعاداتي المفضلة في المشي؛ المشي وحيدة بصحبة أفكاري ، المشي السريع بذهن شارد حتى تقف في وجهي شجرة أو عمود إنارة،  المشي دون همّ قتل السعرات الحرارية أو تسجيل رقم قياسي على التطبيقات الرياضية المحفزة وأخيراً يعيدني لنفسي الحكائة التي تستمتع بخلق القصص والاستطراد في التفاصيل عن كل ماحولها حجارة كانت أو بشر..

حين أمشي معي أحب أن أحافظ على قداسة اللحظة فلا أمنح أذني لقائمة أغاني أو لثرثرة هاتف نقال بل أمنحها لكل القصص من حولها. أقف عند النافذة التي أغلقها أصحابها بساتر من الحديد وأتخيل شكل العائلة خلف الحديد وشكل مخاوفهم من المارة و توجسهم من الطريق! أتأمل العاملة الآسيوية التي تدندن للطفل بصحبتها أغنية من ارتجالها عن (البقالة ) التي يتجهون لها قبل أن تقف لتحيي أحد سائقي الحي وأقف بدوري التربوي وتخصصي الذي أكسبني لعنة المعرفة وهلع المجهول وأتساءل ماذا لو ؟! لو طويلة وعريضة ومحفوفة بنظريات التحليل النفسي والنمذجة والتنشئة و أساليب المعاملة الوالدية ! تقطع مخاوفي امرأة حامل بصحبة طفل يقود دراجة ويشتكي من نفاد شحن هاتفه النقال ولا يبدو على الأم أي نوايا للاستجابة له ولا لهاتفه! مادامت الأمهات يمشين بطمأنينة ويعبرن كل الأطفال والعاملات والسائقين والسيارات المتهورة ومحلات البقالة دون هلع فيجدر بي العمل على استعادة ضبط مصنعي الداخلي لعلي أتخلص من الحرص الزائد. أحاول أن أصحب ذهني وأفكاري بعيداً عن طفل البقالة وطفل الدراجة و أكلفني بمهمة إحصاء النوافذ التي تركها أصحابها كما هي حرة طليقة فلم يقيدوها بساتر من حديد ولم يغطوا وجهها بستارة من الدانتيل. تنتهي الاحصائية بنافذة واحدة فقط أطيل الوقوف تحتها علّها تشي لي بسرها لكني أتخلى عن فضول المحقق وروح الحكاء ما إن ينبح كلب في الداخل .. ابتسم للعمال الخمسة الذين يفترشون الأرض المجاورة للمسجد و يتشاركون فول ومطبق وأكواب شاي بالحليب، هل جمعتهم (قطة) تخفف عن كاهل الواحد منهم العبء المادي لوجبة كاملة؟ أم هربوا من ضيق الغرفة لرحابة الشارع؟ أو ببساطة توجد في قواميسهم مرادفات لعبارة من نوع ( كل مشروك مبروك)؟ بالمقابل أمام كل بيت على جنبات ممر المشي يقف مغترب عن وطنه وأهله يحرس ما خلف الأبواب ويغسل السيارات ويتناول (فوله) وحيداً. أيهم أكثر سعادة من ينام في جزء من بيت العائلة حتى وإن كان جزء خارجي أقرب للشارع منه لداخل البيت ويتناول طعامه وحيداً أم من يقتسم بيت واحد مع عشرات من بني جلدته و يتناول وجبته معهم على الرصيف؟

أعبُر العمال ، أتجاوز النوافذ ،أترك طفل الدراجة خلفي وأمضي إلى السيارة. تصادفني العاملة وطفل البقالة في طريق عودتهم إلى المنزل وبصحبتهم عاملة أخرى لا أعرف إن كانت صدفة طريق أم تخطيط صديقات. أركب السيارة وأشغل التسجيل الصوتي الذي بعثه لي عامل الستائر الباكستاني ينصحني فيه بتركيب ستارة على النافذة الكبيرة في غرفة الجلوس خاصتي. بعث لي العامل الرسالة الصوتية منذ أشهر بعد زيارة استشارية لمنزلي حاول فيها اقناعي بأن حياتي مكشوفة للشارع ليلاً وكل ماعلي هو أن أخرج حالاً وأقف عند باب البقالة المقابل لنافذتي وأراقب شقتي وسأحظى فوراً بمشاهدة مجانية للداخل، لم ينجح في اقناعي بحجب شقتي عن أعين المارة ولا حجب عيني بغشاوة عن مشاهدة الشارع لكني وعدته بالتفكير والرد متى ماجزمت أمري.

 ضغطت زر التسجيل فوراً وقلت له بحسم أريد أن يأنس المشاة بالنور المنبعث من شقتي وبخلق قصة عني تسليهم، أريد أن أرى من يصحب الأطفال في طريقهم إلى البقالة وماذا يشترون ومتى تستجيب أم تمشي لقضية خاصة بطفلها ، أريد أن أرى طبق الفول الذي يقتسمه عمال عابرون وأشم رائحة خبز التميس الساخن بين أيديهم، أريد أن أسمع نغمة الايمو واللاين و (اشتقت لك ) بلغات مختلفة، لا أريد ستارة..

تغليف و ربما فضفضة

عيناها توحيان بدين عاجل للنوم كذلك وقفتها المغلوبة على أمرها أمام طاولة تغليف الهدايا. بادرتها بالتحية وبابتسامة كمن يعتذر لأنه جاء في وقت غير مناسب. في الحقيقة لا أعرف أيهما كان وقعه أشد أثراً عليها الابتسامة أم التحية إذ انطلقت في الحديث معتمدة مبدأ واحد مقابل عشرة، مقابل كل سؤال يتعلق بتغليف هديتي عشرة استشارات عاطفية! لا تسألوني كيف يتحول تغليف هدايا لجلسة نفسية وفضفضة عاطفية! من باب الدفاع عن نفسي وأني لم أغرِ الفاعلة بشيء لا ترغبه أقول أني لم أصرح لها بآني متخصصة في علم النفس  حتى لا يظن أحدهم أن فضفضتها جاءت تحت ضغط الزبون المتخصص.

هل الهدايا وارتباطها بالعواطف هي الدافع الذي أشعل فتيل الفضفضة؟ ربما و لكن هذا يعني أن هذه الفضفضة ستكون من نصيب طوابير الزبائن التي ترتاد المحل يوميا وهو مانفته حين قالت كمن يدافع عن نفسه دون اتهام ( أول مره أفضفض لعابر)!! ربما روتينية العملية تجعل صاحبها ينهمر دون أن يعي مايخرج من فمه أو ربما ساعات الصباح الأولى التي يكون فيها الواحد منا معلق مابين النوم واليقظة وحديثه يتأرجح ما بين الحلم والوعي! الله وحدة يعلم..

ما  إن إمسكت بالمقص وشرعت في عملية التغليف حتى بدأت بسرد المعضلة العاطفية التقليدية : يحبني وأحب آخر والآخر أحبه و… . سكتة قصيرة تجعلك تضع في الفراغ الكلمة المناسبة: لا يحبني! عدلت من وضعية جلوسي على الكرسي لتتناسب مع ما أنا أمامه ، نزعت نظارتي الشمسية لتتناسب مع وضعية الاصغاء مستعيدة في ذلك أمي حين تتحول من الاستماع للانصات والاصغاء فتنزع نظارتها الطبية وترفع عينها عن المصحف!

 بدت متعبة جدا جدا و بدأ المقص يشق طريقة على ورق التغليف ويشق قلبي معه إذ أرى مساره ينحرف ذات اليمين و ذات الشمال ! أقاطعها: عفوا عزيزتي يبدو أن عملية القص خالفت الطريق المستقيم أقول ذلك بكل لطف وأردفه بعفوا أرجو أن تكملي كلي أذان صاغية (نعم أذان فقط أما قلبي فمع هديتي التي يبدو أني سأستخلف الله في تغليفها).

تسحب الشريط اللاصق من بيته وتكمل ؛ مشكلتي لا أجيد التمثيل وأحب أن أكون واضحة لذا أخبرته أني في علاقة مع آخر ! عيني على الشريط الذي يبدو وكأنه ألصق بجبهة صبي كثير الحركة! هل تخيلت أنها تقوم بتضميد جرحه بعد أن عرف بعلاقتها فاضطرت لوضع اللصق بهذه الطريقه لايقاف النزف بسرعة! في الحقيقة لا أعرف لكني متأكدة أن هديتي بدأت تنزف إن لم يكن مما سمعته فحتما من الطريقة التي تمت معاملتها بها.

تثني طرفي ورق التغليف بينما تضع على الميزان محاسن أحدهم ومساؤ الآخر ؛ يهتم لي كريم معي رغم جفائي ساندني في الظروف الصعبة ! هنا  تميل جهة من ورق التغليف للأسفل أكثر من أختها ! أصلي أن يكون للآخر محاسن مشابهة حتى تتوازن كفتي ورق التغليف لكن الميل مع الأسف يزداد إذ تذكر جفاء الآخر واعتلالات مزاجه! اصرخ: توقفي! قبل أن استدرك وأكمل أقصد توقفي عن هذه العلاقة التي لن تنتهي لشيء.. لكنها تتوقف عن التغليف وتتحسر على طريقة عبادي حين يغني” كثير من الحطب حولي وعندك انكسر فاسي”

تتنهد لأنها مبتلاة بالإخلاص حتى مع الشخص الذي لا يستحق الإخلاص.. أصلي ثانية وثالثة وعاشرة أن يحلّ الإخلاص بهديتي التي تتقلب بين يديها، أصلي لئلا تتخلى عنها وتتركها حتى تعدل ما أصابها من تشوهات عاطفية..

تونس: إجازة زرقاء قصيرة

بعيداً عن الغرب قريباً من القلب، قضيت ستة أيام متنقلة بين مدن تونس الزرقاء وأزقتها العتيقة. نوع من الرحلات التي تقفز بين أصابعك فجأة دون تمهيد بينما تقوم بتعداد كل الوجهات المحتملة لرحلة قصيرة وفجأة يهب اصبع زائد في ذهنك ليقول: توووونس!

تونس كغيرها من دول هذا العالم تأخذ مكانها في قائمتي الطويلة جداً لكن لأكون صادقة لم تكن يوماً وجهة ملّحة وإنما موجودة على سبيل يوماً ما سأزورها حتماً. عطلة تقارب الأسبوع كانت صالحة جداً لأن تكون هي ال (يوماً ما) . بعد أن تم استبعاد تايلاند كمرشح أساسي وعدم تمكن مصر من إثبات نفسها في التصفيات النهائية، ظهرت تونس من مكان قصي في القلب وجموعة بعيدة في قائمة خطط السفر..

تونس لا تحتاج فيزا والرحلة لها قصيرة حتى مع التوقف في القاهرة والأهم من كل هذا وذاك أنها الوحيدة بين الوجهات المقترحة التي فازت بجو مثالي يميل للبرودة يحقق الغاية المنشودة في الهروب من (جحيم) الرياض.. ارتفعت أسهم تونس بعد استعراض خيارات السكن المتميزة وأسعارها الزهيدة..

إذاً تونس ثم ماذا؟ حقيبة سفر صغيرة وفحص كورونا قبل ٢٤ ساعة من الوصول وحجوزات سكن موزعة على (أربع مدن). لا حجوزات اضافية ولا خطط محكمة.

ليست إحدي جزر اليونان

عند وصولي لتونس عرضت بعض الصور لسيدي بوسعيد على الانستكرام وطلبت من المتابعين تخمين الوجهة وقد أخذت اليونان النصيب الأكبر من الاجابات. في الحقيقة مارست شيء من اللؤم وأنا أتفادى تصوير الناس أو قطع السجاد في السوق الشعبي، ركزت على البحر والمباني بهوية سماء غائمة ترتدي الأبيض وتتزين أبوابها ونقوشها بالزرقة. هذه الهوية هي ماشدني للمدينة قبل أن أصلها حتى، الهوية المشتركة مع مدن البحر المتوسط، الهوية الدافئة المعطرة برائحة البحر و المتمددة بأمان على صدره..

دار أو قصر أو فندق بوتيكي

خيارات السكن التي تأخذ بيدك بعيداً عن الفنادق الشهيرة ستكون جزء من التجربة الفريدة في تونس.. في سيدي بوسعيد كان السكن فندق بوتيكي بأربع غرف مطلة على البحر، تحتضنك الزرقة حيثما وليت وجهك. الفندق في الأصل بيت عمدة سيدي بوسعيد ورثه ابنه وحوله لفندق حيث تولت زوجته المهندسة المعمارية هذا التحول من الألف إلى الياء و قد نجحت في جعل الفندق يحتفظ بروح المنزل، فسميت الغرف بأسماء أفراد العائلة مثلا غرفتنا كان اسمها : نانا (عمة صاحب الفندق وأخت العمدة) وزين المدخل بصور أفراد العائلة ورسائل الجد لابنه. العاملين في الفندق لهم روح العائلة، أخت كبرى وأخوة صغار سعيدين بزوار منزلهم الجدد.

في سوسة كان السكن في دار ويكفي مالهذه الكلمة من دفء خاص حتى قبل أن تكمل بقية الاسم الذي سيزيدك دفء : دار انطونيا، انطونيا  البرتغالية الفرنسية حبيبة وزوجة مالك الدار التونسي الفرنسي. دار حقيقية بأربع غرف تتوسطها أرض الديار التي تزينها بحرة ماء ، كل غرفة تحمل اسم نبته عطرية فقد تسكن في غرفة الفل أو غرفة الياسمين  وليس هناك رقة أكثر من أن تنام في حفظ النباتات وعطرها. فطور تونسي ينتظرك صباحا حول بحرة الماء ونزلاء تخالهم أبناء عمومه مجتمعين في منزل الجدّ..

أما تونس العاصمة فانتظرني فيها قصر آخر المفتين العثمانيين بكل الفخامة و (الأوبهة) التي تليق بقصر استغرقت إعادة ترميمه سبع سنوات والكثير من المهندسين الطليان في سبيل التجديد وحفظ الهوية. قصر جاد جداً بحجراته الواسعة و آرائكه الحمراء و مصابيحه الكريستالية وطاهيه الفريد من نوعه الذي يستطيع صنع شكشوكة دون بيض من أجل عيني نزيلة سعودية لا تأكل البيض (:

الأسواق الشعبية

يعرف من حولي أني مفتونة بوسط المدينة القديمة، في كل بلد أزورها أفتش عن المدينة القديمة، أفتش عن الأزثة الضيقة والمقاهي العتيقة والأبواب الملونة . هذا الغرام جعل تونس تملك قلبي بسوقها الشعبي الكبير. التجول في السوق لا يكفيه يوم واحد، إذ ستضيع فيه بين المصنوعات الجلدية، والجلابيات المطرزة، والتوابل و المنتجاته المحلية، والشاشيات (الطرابيش الحمراء). إن كنت محب للأسواق الشعبية فستضيع في أزقة سوق تونس وبين باعته الذين سيتجاذبونك كأربع زوجات تحاول كل واحدة منهن أن تفوز بالزوج في منزلها هذا المساء! وهذه النقطة الأخيرة في الحقيقة هي إحدى سلبيات السوق. من أكثر الأشياء المزعجة بالنسبة لي أن لا يكون هناك سعر واضح للسلعة أو على الأقل أسعار متقاربة! أجد الجلابية ب٧٥ دينار تونسي في محل وفي المحل المجاور ب٣٠ دون أي فرق لا في الخامة ولا اللون ولا النقش! أجد الحذاء ب١٢٠ دينار وفي هبوط سريع يصل ل٦٠ في المحل نفسه! هذا التفاوت الذي لا يستند لمنطق معين يزعجني ومتابعة البائع لي في كل زاوية في المحل وإلحاحه على الشراء يوترني!

لذا الأسواق مكان تجول عظيم لكنه يحتاج مزاج هادئ ونفس ثابتة و فطنه في معرفة القيمة الحقيقية للسلع!

كوب شاهي باللوز

كوب شاهي اللوز هو العلامة المميزة للمقاهي التونسية ما إن تدخل أي مقهى حتى يستقبلك في رأس قائمة المشروبات : شاهي اللوز، كوب شاهي الآتاي وفي أسفله لوز مقشور. في سيدي بوسعيد يمتد أشهر المقاهي على تل مزين بالطاولات الخشبية والمقاعد المغطاة بالسجاد الملون، يطل المقهى على البحر ليمنح زائره أفضل مكان لمشاهدة الغروب. سيدي شبعان مقهى بطراز شعبي يقدم المشروبات والأطعمة. في زيارتي للمقهى كان هناك رجل يتشح عبائه بيضاء ويرتدي شاشيه ويدق على طبل بين يديه متغني ببعض الآغاني الشعبية التي تبدأ بالصلاة على النبي ثم التغني بأسماء الزبائن طاولة طاولة..

 قهوة العالية في بوسعيد مقهى شعبي آخر يقتضي من زائره صعود عتبات قديمة تضع المقهى في المكان العالي الذي يتخذ اسمه منه. أما في تونس فهناك مقاهي حديثه على امتداد شارع بورقيبة ومقاهي أخرى شعبية في السوق الشعبي بالنسبة لي النوع الثاني من المقاهي هو الأحب لقلبي حيث تمتد المقاهي مرتصة بجانب بعضهاالبعض في السوق المغطى ويصدح منها صوت القرآن في الصباح ورائحة القهوة..

دار قمر في سوسة دار قديمة تملكها إحدى عائلات سوسة التي رممتها بدعم من الحكومة وفتحتها لتقديم المشروبات والأطعمة. تستقبلك في ساحة الدار صاحبتها السيدة بديعة وترحب بك لتمنحك شعور (البيت بيتك). الدار بجانب كونها مقهى تعتبر مكاناً لإقامة الأنشطة الفنية والثقافية.

أخيراً كانت تونس خيار لطيف لإجازة قصيرة وسريعة ودون تخطيط.. بلد عربي قريب لا اجراءات معقدة ولا غلاء هي كل ماتحتاجه إن رغبت بشكل مفاجئ في كسر الروتين..

صوت الرحلة

شقة 14: يوم من حياة بناية

السكن في شقة ضمن عائلة من الشقق الموزعة على عدة طوابق يحولك لمراقب من الدرجة الأولى ، هاوي ملاحظة، يراقب، يحلل ويدون ملاحظاته بشكل خفي .. يحولك أيضاً لكاتب لا يملّ اختلاق القصص للأفراد من حوله، خياله يقتات على حركة الشقق وسكانها، ستجد نفسك تخلق لكل جار وجارة قصة ترسم تفاصيلها وتكون الوحيد المسؤول عن حبكتها دون علم أبطالها ..

البطل الرئيسي

حارس برتبة مدير، يوبخك لأنك تقود سيارتك بسرعة ولا تستطيع طبعاً التشكيك في أقواله فهو هنا 24 ساعة حتى وإن لم تراه! بلطف يحلف بطريقته الخاصة بأنه هو الذي سيحمل أكياس التسوق خاصتك ولا يثنيه رفضك وشكرك فأن يكسب معك ثرثرة تمتد صعوداً لمسافة طابقين هي بالنسبة له وجبة دسمة يغري بها جار آخر ليحمل أغراضه ويثرثر معه. هذا النوع من الثرثرة ثمنها بالنسبة له مجرد حمل بضعة أكياس و من يدري قد يتبع هذه الوجبة تحلية من نوع خاص إن أشبعت فضوله وسمحت له بوضع الأكياس داخل الشقة وليس عند عتبة الباب عندها سيلبس قناع المقاول سريعاَ ويلومك على التعديلات التي أحدثتها في مدخل الشقة ويصفق لتعديلات أخرى ويمرر بعض الاقتراحات قبل أن يسمع منك شكراً القاطعة والتي تعني (مع السلامة). مع حراس البنايات تعود لك حلقة when the doorman is your main man من مسلسل Modern Love كل مايدور في البناية يدور تحت نظره وبامتيازات أهمها كاميرات مراقبة وحدة من يملك مفاتيح شاشاتها. يعرف الحارس ساعات دخولك وخروجك ومن بصحبتك وبأي أغنية كنت تترنم عند نزولك من السيارة وشكل مزاجك في الصباح وهل تصطحب كوب قهوتك معك من المنزل أم تشتريه ولديه سجل لكل علاقاتك وتقييمات لها أيضاً. أفكر أحياناً أن حراس البنايات من الضروري أن ترفق أسمائهم وبيانات التواصل معهم كمرجع عند البحث عن عمل أو شريك حياة.

5:30 صباحا

تستيقظ شقق البناية كل واحدة على طريقتها الخاصة. أعرف أن الجار في شقة 10 استيقظ بمجرد أن أبدأ في السعال كإشارة على أن أنفي التقط دخان سجائر قادمة من البعيد.. صوت القرآن بدأ يتسرب في الممرات، الأم في شقة 3 استيقظت وبعد نصف ساعة ستوقظ طفلها.. حتى لا يفتقدني أحد منهم وحتى أطمئن الجميع أني استيقظت (إن كان يعنيهم كما أتخيل) ما أن أفتح عيني حتى أدير الراديو على محطة Swiss Jazz.. حليب الزنجبيل يغلي وتنتشر رائحته في البناية إذا العائلة في شقة واحد قد استيقظت.. صوت الخلاط الكهربائي يبدأ بارتباك ثم ينطلق بسلاسة هي طريقة السموثي الأخضر ليخبر جميع سكان البناية أن الجار ذو العضلات المفتولة مستعد للخروج.. الأطفال دون سن المدرسة وأصحاب الشركات ومن لا عمل له لا يشارك في جلبة الخامسة والنصف.. أصنفنا في ذهني لحزبين : حزب الخامسة والنصف وحزب إلى أن يشاء الله. الأخير نائم إلى أن يشاء الله لجنبيه أن تشتكي من مرتبة السرير أو أن يذكره منبهة أن هناك عمل عليه أن ينجزه أو غداء عليه أن يحضرّه..

3:30 مساء

وجبة الغداء في البنايات تقول الكثير عن قصص أصحابها.. الأم في شقة خمسة المقابلة لشقتي والتي لم أتقاطع معها ولو مرة أعرف أنها تقدم وجبة الغداء عند الساعة الثالثة والنصف.. عند الثالثة يبدأ صخب : أغسلوا أيديكم، ساعدوني في ترتيب السفرة، أحضر الماء ، قرب الكراسي من بعضها وضع غطاء السفرة.. عند الثالثة والنصف تماماً موعد اتمامي لإدخال الرقم السري في مفتاح باب شقتي بعد العودة من الدوام كل يوم اثنين تدخل معي رائحة الطاجن القادمة من شقة 4، أكتفي بالسلطة يوم الإثنين حتى لا أفسد على الجارة رائحة الوطن ولمة العائلة وطعم الحنين..

الجيران في الطابق السفلي تقدم وجبة غدائهم عند الثالثة والنصف تماماً، موعد عودة الأب من العمل و إيقاظ الأطفال من قيلولتهم.. غداء أمهات حقيقي، كبسة (مكشنّة) يبدو أن الأم وضعت كل حب الدنيا الذي تحكي عنه شرين فيها حتى أن رائحتها تطاردني أثناء صعود الدرج لتعيدني لأيام الطفولة والمراهقة وكبسة أمي المتقنة. نعم كبسة الجارة متقنة أتخيل كيف أن البصل مقطع بدقه مكعبات صغيرة جدا ومتبل بطريقة موزونة لا يطغى فيها طعم على أخيه أما حبات الأرز فقد تم طبخها بعناية لم ينهرس شيء منها ولم يستعصي شيء منها على الطبخ. صدقاً في كل مره أشم كبسة الأم أصلي وأنا أصعد لشقتي علّ الله يكرمني ويكون لي نصيب من هذه الكبسة من باب الجار للجار أو الجار أولى بالمعروف أو حتى كحق جار على جاره أن لا ينبش كل هذا الحنين في صدره ثم يتركه ليرويه بعدس وبرغل خشن.

أول شقة في الدور الأرضي عميل مميز لجاهز ، أعترف أن الفضل يعود له في تعريفي بأن هناك مطعم اسمه (أميمتي). يبدو أن الجار من نوع ” أنا عندي حنين” لكنه يعرف جيداً ان حنينه لطبخ الأمهات لذا يتناول غدائه من يدّ (أميمتي). أتساءل لأي درجة يمكن أن يكون سعيي مشكور لو اقترحت على شقة خمسة أن تبيع كبستها على العزاب والعازبات في البناية من فريق ” عندي حنين” بمقابل مادي تكسب منه دخل شهري وتكسب معه مطابخنا ” ريح الأمهات”. عموماً إن نجح التفاوض مع الجارة فإننا حتماً سنتوسع ونطلقه على برامج التوصيل تحت مسمى ” كبسة جارتنا”..

سأمارس التجاهل تجاه بعض الشقق ولن أقف عندها كثيراً. مثلا: الشقق التي تستخدم الثوم1 بكثرة حتى لا تعدّ تميز ما إذا كنت في شقة أم في محل شاورما. الشقق التي تبدو قادمة من كوكب آخر لا تعي مخاطر الدهون ولا تقرأ عن انسداد الشرايان ولا يرعبها ارتفاع نسبة الكولسترول فلا يتسرب من شققها سوا رائحة الوجبات المقلية. أفكر أحياناً في دس مجموعة من أحدث الدراسات عن مخاطر الدهون تحت أبواب هذه الشقق علها تصادف لحظة وعي وبصيرة..

هناك شقق بيضاء، لا رائحة لها، لا توابل ولا بصل ولا خشخشة خضار طازج ، لا شيء لا شيء أبدا يمكنك من التعرف على هوية السكان ، نظامهم الغذائي، أسلوب حياتهم ، مواطن الحنين لديهم.. !  

7:00 مساء

أسميها قهوة المغرب مع أن المغرب بالنسبة لي هو وقت استكشاف أنواع الشاي والأعشاب طيبة الذكر، عرقسوس ، زنجبيل ولافندر، مرامية ..الخ . لكن الطقس العام في كل الشقق العائلية؛ قهوة! هيل برائحة حادة يتسرب من شقة ويصدم برائحة مسمار مندفع من شقة أخرى يلتقون في الممر كأنهم في مجلس سياسي قضيته أي شقة يغزون؟ طبعا سيقع اختيارهم على الشقق البيضاء التي لا تغلى فيها القهوة وفي خجل شديد أقول لا يوجد لديها بن من الأساس. اكتشفت مؤخراً طقس مصاحب لقهوة المغرب، طقس نسائي سري وقعت عليه بينما أنزل الدرج في أحد الأيام- بالمناسبة استخدام الدرج بدلا من المصعد في عالم البنايات يكشف لك العوالم الخفية للبناية- تجمع نسائي وشى به حذاء كالفن كلاين الفضي المتروك عند باب إحدى الشقق ! خرجت صاحبته فجأة لتبدو كمن يطمأن عليه لكن يبدو لي أنها أرادت أن تطمئن على الخطوات التي كانت تنزل الدرج، تريد أن تتأكد أن طفلتها التي تركتها نائمة في الشقة ليست صاحبة هذه الخطوات. فهمت أخيراً سرّ الضوضاء والأحاديث التي تخترق صمت شقتي في المساء ولا تستجيب لمحاولاتي اللطيفة لإسكاتها عن طريق فتح النافذة وإعادة إغلاقها بقوة.. هذه المنظمة السرية لا يصلني منها سوى جلبة لا أستطيع فك شفراتها ولا هوية أعضائها، كل ماأستطعت رصده عنها أنها اجتماعات يومية تبدأ بعد المغرب مباشرة وأخلد للنوم عادة قبل أن تنتهي. أيضاً العلاقة طردية بين الوقت وحماس الجماعة كلما تأخر الوقت كلما علَت الأصوات أكثر واختلطت ببعضها وتسائلت هل يسمع أحد منهم أحد أم مجرد تنفيس، الكل ينطلق ويفرغ مافي جعبته من ثرثرة قبل أن ينتهي الوقت المحدد!

10:30 ليلاً

الحارس يلعب (ببجي)، الأزواج في الخارج، الأطفال نصف نائم ونصف يغني (الغزالة رايقة) ، لازال اجتماع المنظمة النسائية السرية ممتد، جار حريص في كل ممرّ على أن يخفض إنارة المصابيح عند العاشرة وجارة2 حريصة تنزل لتغلق الباب الرئيسي للبناية دون أن تعبء بالأزواج حين يعودون من سهراتهم غاضبين مضطرين لإيقاظ زوجاتهم أو الحارس لفتح الباب..

1للأمانة الثوم خيال بحت بنايتنا بريئة منه

2الجارة الحريصة قد تكون أنا

ليالي الأنس في فيينا

الذاكرة الوحيدة التي تربطني بالعاصمة النمساوية (فيينا) قبل أن أزورها؛  ذاكرة سمعية تتمثل في أغنية (ليالي الأنس) لأسمهان ولطالما تخيلت نفسي راقصة ليلاً على هذه الأغنية في شوارع فيينا ..  النمسا بشكل عام لم تكن يوماً في قائمة أولويات الزيارة بالنسبة لي ، شيء خفي يبعدني عنها! ربما كثرة تكرارها على  ألسن زوارها وكثرة حضورها كوجهة سياحية حتى بدا لي وكأني زرتها! أنا التي أعشق روما بينما يراها السياح العاصمة الأوروبية الأقل مستوى ولا أحمل مشاعر بعينها تجاه لندن رغم أني قضيت سنوات في بريطانيا وأحببت مدريد بينما كان الكثير ينصحني بعدم زيارتها وتعلقت بمالطا ولشبونة فيما كرهت جنيف هذا التاريخ الشخصي الموجز عن علاقتي بالمدن الأوروبية ربما يفسر بالنسبة لي على الأقل بقاء فيينا في مدن الحياد لا أكره زيارتها لكنها ليست أولوية ..

نهاية السنة الماضية 2021 كانت عصيبة بالنسبة لي مع الكثير من التحديات لذا كنت أتطلع لنهاية الفصل الدراسي ولإجازة مابين الفصلين. مع الكورونا وتبدل إجراءات السفر كل ليلة حاولت تضييق خياراتي على الوجهات السهلة نوعاً ما التي لا تحتاج تأشيرة أو لدي تأشيرة مسبقة صالحة لها، لا تطلب أي شكل من أشكال العزل وأخيراً أماكنها العامة مفتوحة بشكل طبيعي.. انطبقت الشروط على عدة مدن لكني اخترت المدن التي لم يسبق لي زيارتها ومنها فيينا.

هُنا فيينا (وصول ليلي)

وصلت فيينا بالسيارة من براغ (3 ساعات ونصف) ، كان الوقت ليلاً فكان الفندق هو الوجهة خصوصا أن المطاعم والأماكن العامة تغلق تماما عند العاشرة مساء.

حب من أول نظرة

هل حدث وأن كشفت لك مدينة عن ساقها من أول لقاء ؟ هذا مافعلته فيينا حين استقبلتني بفندق مختبىء في أحد الأحياء، دفعت بابه الخشبي الأحمر الداكن لتستقبلني أرضية الشطرنج والجدران الحمراء الداكنة وثريات الكريستال.. ما إن قرعت الجرس الذهبي الصغير على منضدة الاستقبال حتى وصلت الموظفة بشعرها الأشقر القصير وروحها اللطيفةوزيها الأخضر، ناولتنا المفتاح ذو الميدالية الحمراء (أعتقد أني الوحيدة في العالم التي فتنت بمفتاح غرفة فندق) مررت عليها وعلى بقية الموظفين هذه الدعابة (ممكن آخذ المفتاح تذكار) مرات كثيرة لكنهم قابلوها بدعابات تحول بيني وبين المفتاح على طريقة (انسي الموضوع). أما الغرفة فأخشى أن يظلم وصفي الأثاث المصنوع من خشب الراتان ،  أو يبخس حق الراديو الكلاسيكي على طاولتها أو يحط من هيبة ثريا الكرستال فوق رأسي (لا عجب أنت في النمسا) لذا سأكتفي بأن أقول كنت في غرفة معدة لتصوير فلم كلاسكي أو دعاية عطر لعارضة بفستان سهرة أسود كل مافيها مدهش ومعتنى بتفاصيله بدءً من الجدران الحمراء التي احتضنتني بدفء مرورا بأرضية الشطرنج وانتهاء بالكرسي الأخضر المخملي. كل ملامح الفندق تبشر بمدينة متأنقة لا تعرف لغة غير الفن حتى في فنادقها ، هذا هو المعتاد والطبيعي فلا تحتاج لدفع مبالغ طائلة للحصول عليه..

أحد الموظفين اقترح علي ان أقوم بتصوير المفتاح عوضاً عن أخذه كتذكار!

طعام لذيذ ودافئ

من الأسئلة اليومية التي تهمني في أي مكان: أين سأتناول الفطور؟ قد يبدو السؤال تافه جداً لكن لشخص يعاني من مشاكل معدة معقدة ومن وساوس تتعلق بالصحة وزيادة الوزن ومن شهية معادية للبيض (أهم عنصر غذائي في قوائم الفطور حول العالم)  فإن هذا السؤال مهم جداً عند زيارة أي بلد. فيينا مدينة تملك إجابات مثالية ومنوعة لسؤال من هذا النوع.. بين كل مقهى ومقهى هناك مخبز ويقابلهما مطعم للفطور والفطور المتأخر. هذا التنوع العظيم أنقذني من قوائم الطعام التي تغص بالبيض غالباً ووهبني خيارات الأفوكادو والحمص بنكهاته المختلفة والجرنولا والمخبوزات المنوعة.. ركزت على وجبة الفطور لأنها فاتحة اليوم والوجبة الرئيسية بالنسبة لي لكن بشكل عام لم يكن صعباُ أبداً الحصول على مطعم على بعد خطوات من أي نقطة أقرر التوقف فيها في أي وقت، دائماً هناك أماكن متميزة لتناول الطعام؛ مطعم يختبئ في حديقة صغيرة وآخر يمتد برحابة تحت سقف زجاجي تملىء أرضه النباتات.. قوائم ممتلئة بالطيبات والأهم لا تحصر الزبون في زاوية اللحوم! دفء المطاعم وتصاميمها المختلفة وأطباق شوربة القرع الممزوجة بزيت القرع جعلت اللقاء مع مطاعم فيينا لقاء للذاكرة لا يخبو ولن ينسى..

من هنا اكتسبت حالياً عادة اضافة المانجو لشريحة توست الأفوكادو وإن كان الشكل الذي انتهي له يبدو مقلداً بشكل سافر

بيوت القهوة

 الحديث عن مقاهي فيينا يبدأ ولا ينتهي.. يبدأ بأنها تُعرف باسم (بيوت القهوة) وتم تصنيفها من قبل هيئة اليونسكو للتراث ضمن قائمة التراث غير المادي. إذا كان الناس حول العالم يذهبون للمقاهي بهدف شراء كوب قهوة فإن الناس في فيينا يذهبون للمقاهي بهدف حضور النقاشات والجلسات الأدبية والحوارات كل هذا مقابل كوب قهوة . في مقاهي فيينا ستجد سيجموند فرويد وستيفان زفايغ والكثير ممن لازالوا يرتادون المقاهي للنقاشات ، والأهم ستجد المقاهي في كل شارع وركن وستجد خيارات الحليب النباتية متوفرة غالبا (: المظهر الكلاسيكي للمقاهي العريقة والخدمة التي تفوق خمسة نجوم بدء بمدّ المفرش الأبيض على الطاولة أمام عينك بطريقة كلاسيكية تخيّل لك أنك أحد أبطال داونتون آبي ثم تزويدك بالماء المجاني كل فترة وعدم استعجالهم لك بأي شكل من الأشكال وكأنك الزبون الوحيد يجعلك تفهم السرّ في اتخاذها مقر عمل وعنوان مراسلة من قبل بعض الأدباء والصحفيين المشاهير الذين كانوا يقضون جلّ وقتهم فيها. من هنا فهمت أيضاً اتخاذ مانديل بطل رواية (مانديل بائع الكتب القديمة) لأحد مقاهي فيينا مقراً له ومكتباً لعمله مما يشير لأن هذا الوضع كان سائد ومتعارف عليه في فيينا .. الصحف المصفوفة على طاولة خاصة في جميع المقاهي أو المعلقة على لوح خاص تجعلك أيضاً تفهم ستيفان زفايغ حين يقول في إحدى رواياته وفي وصف أحد مقاهي فيينا القديمة ” ستجد أناس يستهلكون الصحف أكثر من استهلاكهم للمرطبات”

كيف تقضي وقتاً لطيفاً في فيينا؟

هذا السؤال يمكن أن تسأله في أي مدينة عدا فيينا ، إذ أن الإجابات كثيرة بمجرد أن تخطو قدمك خطوة خارج مكان سكنك ستصادفك المتاحف وصالات العرض الفنية والقصور (الحقيقة لا تستهويني القصور إلا لو كان فيها مناسبة معينة كحفلة موسيقية أو معرض فني) والكنائس التي خصصت المساء للحفلات الموسيقية.. ستضع فيينا أمامك مائدة فنية موسيقية عظيمة وستترك لك الخيار وهذا كل مايحتاجه شخص مثلي ؛ الفن والموسيقى والأدب ثم التسكع هائماً في الطرقات .  النهار كان من نصيب المتاحف والمعارض الفنية حيث تغلق ابوابها عند الساعة السادسة مساء أما الليل فما تيسر من حياة المدينة، في إحدى الليالي حضرت أوركسترا لكن بطريقة كوميدية مختلفة. وفي ليلة أخرى ألغت إحدى الكنائس الحفل الذي كنت أنوي حضوره لكنها مرة أخرى فيينا لن تضيع فيها ولن تسأم..

خذني معاك ! لا تنسى في زيارتك لفيينا أن تجرب زيت القرع الشهير، في الحقيقة حتى وإن نسيت فإن المطاعم لن تنسى اضافته لبعض الأطباق والتي على رأسها شوربة القرع لكن سأوصيك بأن تحمله معك كتذكار تزين به شريحة ساور دو مع جبنة الفيتا في صباحات الجمعة.. إن كنت من عشاق الكيك تحديداً ماكان بنكهة الشوكولاتة فلا تنسى كيكة الساخر في موطنها الأصلي تحديداً في مكان ولادتها : فندق ساخر. هذه الكيكة تعتبر أيقونة الكيك ويتم اعتبارها جزء مهم من الإرث النمساوي حتى أنهم وضعوا يوم خاص باسمها سنوياً يتم الاحتفال فيه بهذا الإرث!

إن وقعت في غرام هذه الكيكة فتطمن المحل لديه توصيل للسعودية لكثرة مريديها وتستطيع أيضاً حملها في صندوق مزين من المحل، أما أنا فلا زلت في صف كيكة التمر خاصتنا كأيقونة للكيك..

سرّ الهيام

فيينا فاتنة معجونة من الخليط المفضل لي؛ شوارع حية بناسها، ساحات يتناول الناس الطعام في الجلسات الخارجية لمطاعمها، أكل منوع ولذيذ ، مقاهي كلاسيكية ومقاهي حديثة كبيرة وصغيرة، مباني عريقة وفن فن فن في كل مكان والروح دائماً تواقة للفن، تُزهرّ بلوحة وتنمو بمنحوتة.. أيضا المدينة كأي مدينة أوروبية كل نقطة مهما بعدت إلا أنها لاتزال في حدود القدرة على المشي الأمر فقط بحاجة للياقتك و لجو لطيف وإن تعذر أحدها فالترام موجود. المدينة حية مبهجة رغم أنف الكورونا ورغم السؤال المتكرر عند دخول أي مكان عن شهادة اللقاح ورغم اشتراط نوع معين من الكمامات. أيضاً لن أنسى الناس الذين تفاعلت معهم وصادفتهم في هذه الأيام القليلة كانوا من اللطف لدرجة أن أحد كبار السن في أحد المقاهي حين عرضت عليه صورة ستيفان زفايغ كأحد رواد المقهى فتح معي محادثة بالألمانية واستمر فيها رغم ترديدي لكلمة : انجليزي انجليزي !! لكنه استمر مبتسم مبتهج على طريقة ستفهمين ستفهمين كذلك السيد الذي قابلته عند متحف فرويد وكان يرطن بالألمانية ويضحك هنا استخدمت تكنيك تسميه صديقتي هتاف (الفهم بالبوهة(الهيئة)) ففهمت أنه يقترح أن أصور أمام باب المتحف.. أخيراً، كل ماتم ذكره يتوفر في أماكن كثيرة لكن تظل للمدن روح خفية تتعدى الوجود المادي هذه الروح هي مايلمس الزوار ممن يرون المدينة بأرواحهم قبل عيونهم وقد لمست روح فيينا روحي فابتهجت وأحببت وردتت مع أسمهان “ليالي الانس في فيينا ،، نسيمها من نسيم الجنة” ..

بالمناسة فيينا كانت تسمى (فيندوبونا) ومعناه الهواء الجميل أو النسيم العليل، تحسباً  لو تسائلتم عن مقطع (نسيمها من هوا الجنة ).